أحمد شاكر ٣٧ عاماً طويل القامة مفتول العضلات يهتم بممارسة الرياضة بشرته سمراء عينيه خضراوتين ورثهما عن عيون جده لأبيه شعره أسود كالليل ناعم .
تربي في مدرسة حكومية بمصر الجديدة رغم ان اباه ميسور الحال فكان ابوه ناصري ويشجع كل شيء مصري ولكنه اتقن الانجليزية ببراعة فكان يشاهد الأفلام الأجنبي بترجمة عربية ثم يحاول ان يستمع
للكلمات بدون ترجمة والتحق بعدة كورسات للغة الإنجليزية.. وكان يقرأ روايات شكسبير غير مترجمة ثم يذهب ليبحث عن ترجمة الكلمات ف المعجم ..ومن ثم التحق بكلية الإعلام قسم صحافة كان متفوق ولكن نظرا لنشاطه السياسي المعارض حرم من التعيين ف الجامعة
يستيقظ ليس علي صوت اي ٱلة تنبيه بل ساعته البيولوجية التي اعتاد علي ذلك منذ أن تم اعتقاله
بتوقيت القاهرة الساعة السادسة صباحاً اعتاد النوم علي جانبه الأيمن ملتصق ف الحائط بمجرد فتح عينيه تبدأ المعاناة في عد المربعات الموجوده علي ورق الحائط بجانبه ثم يقاوم افكاره وينهض ببطء ليفتش في غطاء سريره وملابسه علي اي نقاط للدم ...ويقاوم الفكرة مرة اخري حتي يستطيع
النهوض ودخول دورة المياه لا يشعل اي أنوار داخل دورة المياه يخاف ان يري جسده يغمض عينيه وهو يخلع ملابسه الداخلية حتي لايفتش فيها عن نقط دماء ويلقيها في الغسالة حتي لايبدأ في دوامة أفكار جديدة يقف تحت الدش متجنباً النظر للمياه السائلة علي جسده لأنه من الممكن ان يراها نزيف دماء ثم يجتذب المنشفة ويجفف جسده ولا ينظر ف المنشفة كان يلقيها في الغسالة ويديرها حتي يتم تنظيف ملابسه دون النظر فيها مرة اخري .....احضر ثلاثون منشفة
كبيرة لجسده وثلاثون منشفة صغيره لوجهه حتي لا يضطر لتكرار استخدام المنشفة مرة اخري والتفتيش فيها ألف مرة
بعد ارتداء ملابسه الداخلية يسرع لٕارتداء سرواله حتي ينهي معاناته اليومية ... يتناول وجبة افطاره وخمس انواع من أدوية الإكتئاب والوسواس القهري ولا ينام سوي بمنوم
ينظر ف المرٱه يصفف شعره ويطيل النظر ف عينيه ليري الوهم الجديد لون أصفر يفسره اضطراب في وظائف الكبد وربما أُصيب بفيروس سي .. كان يتجنب الذهاب للأطباء رغم كل هذه المعاناة كان يفضل أن يموت ببؤسه عن الذهاب للطبيب ربما داخله يعلم جيداً انه بخير ولا يحتاج لزيارة طبيب
٥ مارس ٢٠٠٢ تم اعتقاله نتيجة مقال
سياسي اعتبرته السلطات مثير للشغب وقلب نظام الحكم .. حبس انفرادي يجلس علي كرسي معصوم العينين مكبل اليدين لا أحد يدخل للتحقيق معه لا يسمع غير صوت قطرات المياه من الصنبور حتي فكر في فكرة مجنونة حتي لايصاب هو بالجنون ...مع صوت القطرات قرر ان يعلو صوته علي صوت قطرات المياه وكأنه
لحن(تاراراراراراراراتاراتارتارا) نجح في أن يغطي علي صوت القطرات حتي يصاب بالإنهاك ويقع من فوق الكرسي علي جانبه الٔايمن وينام من شدة التعب... مكبل الايدي معصوم العينين سبعة ايام علي هذا الحال لا يقطع سيمفونيته سوي شخص يدخل عليه يومياً يسبه بجميع انواع الشتائم المتعلقة بالأمهات وركله وبعض انواع التعذيب الجسدية....كان يشم رائحة الدم السائل من
أنفه وطعم الدم في فمه ... حتي يوماً علا صوت سيمفونيته المعتاده مع صوت قطرات الصنبور حتي ظن حارس السجن انه قد أُصيب بلوسة عقلية وفتح الزنزانة عليه بعد اخذ الأوامر وإخبار الظابط ( الزبون استوي
يا سيادة العقيد) تمت جرجرته مكبلًا إلي مكتب سيادة العقيد ليبدأ التحقيق اسمك ايه ؟ ليرد منهكاً أحمد شاكر
ايه علاقتك بالتنظيمات الإرهابية ؟مليش اي علاقة وباكره الاخوان والسلفيين وكل مقالاتي تدل علي كده.....بتنتمي لحزب ايه؟
مبنتميش لأي حاجة غير مخي وكتبي وفهمي ورؤيتي والمنطق ليرد العقيد ( أهي فزلكة أهلك دي اللي هاتوديك ورا الشمس بتهيج الشباب يا روح أمك فاكر ان البلد دي اللي بيحكموها عيال سيس زيك وزي أصحابك إحنا ضاربين جدورنا لسابع ارض وسابع سما) وبعد التحقيقات ومعرفة إتجاهاته الفكرية تم
الحكم عليه بثلاث سنوات ... يخرج من الحبس حليق الشعر وبإنذار له من سيادة العقيد ان يغير نشاطه أو يكتب ف الفن (
اكتب يا عم أحمد ف الفن ف الرقص ف الحاجات الحلوة دي اللي هاتعيشك في أمان وملكش دعوة بالكبار يا حيلتها )
تنهد وأخد نفس عميق عند أول نظرة للفضاء الواسع ليستقل أول تاكسي ليقله إلي منزله في مصر الجديدة
هو من اصول شرقاوية وبالتحديد الزقازيق ولكنه نشأ وترعرع في مصر الجديدة في منزل جده بعد وفاة والدته في السابعة من عمره بمرض مناعي وقتها كان نادر ووفاة والده بعدها بعشرة اعوام ..منزل متسع كالمنازل القديمة سقفه عالي مكون من ست غرف وحمامين إيجار قديم يبلغ الإيجار خمس جنيهات زادها المالك لعشرون جنيه ..
بعد شهرين من خروجه من المعتقل أتي عمه من البلد وبمجرد أن التقاه احتضنه بقوة وأخبره إنه أتي ليراه ويطمئن عليه ... وبعد نقاش طويل اقنعه أنه سيأتي بفتاة من البلد تقوم بخدمته (البيت واسع اوي ولازم
واحدة تنضفه وتخدمك فكر يا واد بقي ف الجواز ولو نويت هاجيبلك شوية عرايس زي القمر وعايزين يعيشوا مش هايتعبوك زي الخوجاية اللي اتجوزتها )
فقد تزوج لمدة عام من مراسلة صحفية من روسيا لم تحتمل ثورته وأفكاره وبمجرد دخوله المعتقل سافرت لبلدها وهجرته
بعد اسبوع من لقائهم وجد عمه يطرق بابه وفي يده فتاة تبلغ الخامسة والعشرون من عمرها شعرها اسود طويل وضفيرتها تطل من تحت منديلها الوردي الذي وضعته فوق رأسها وترتدي جلباب وردي وعيناها عسلية وبشرتها خمرية قليلة الكلام وتضع رأسها ف الارض ليخبرها عمه (ده استاذ أحمد مبيحبش الكلام الكتير تنضفي البيت وتعملي له لقمة وتخشي تنامي ف اوضة المسافرين ملكيش دعوة بقي مين راح ومين جه لو قولتي لي أنا شخصياً هارجعك لأبوكي فاهمة يا بت يا صباح ) لتوميء برأسها بالموافقة
كان يعود للمنزل ف السادسة مساء من جريدته التي يكتب فيها في قسم الأدب واعتزل السياسة .يتناول وجبة الغذاء ثم يدخل غرفته ويظل يكتب مقالات سياسية وازال بلاطتين من غرفته لكي يخفي مقالاته تحتهما ووضع فوقهما سجادة وفوقها ترابيزة صغيرة
لم تكن طباع صباح ريفية ساذجة فكانت تشاهد برامج التوك شو تستمع للبرامج الطبية ف التلفاز وكانت تجيد القراءة والكتابة ... وكانت فضولية ولكن بأدب لاحظت كل تصرفاته الغريية عند استيقاظه عدم اشعاله النور عند دخول الحمام ... لم تكن تعلق علي عدم ارتدائه احيانا سُترة
علوية اثناء وجوده بالمنزل فكانت تشاهد ف التليفزيون ابطال المسلسلات الاجنبي ينامون عرايا...
ذات صباح لاحظت انه يعيد تزرير قميصه اكثر من مرة فأتت مسرعة وقالت له ( ايه رايك أساعدك ؟) أجابها مستغرباً تساعديني ف ايه؟ فردت ( ازررلك القميص انت موسوس عارف حدانا ف البلد بت العيال مسمينها سوسن المجنونة عشان بتمسك عصايتها وتقعد علي الترعة تعد ف البط مية مرة وبعدها تقعد تعد ف الفلوس مية مرة اللي لمتها من الناس انا عارفة انها موسوسة مش مجنونة سمعت الدكتور ف التليفزيون بيقول عن حالتها دي ) فضحك وقال بتشخصي امراض كمان يا صبوحة ماشي وريني هاتسعديني ازاي بس هاتتكسفي ؟ فردت باستعجاب ( اتكسف ؟ من ايه ؟ ما انت داير طول النهار ملط ف الشقة علي الاقل هاسترك ...وضحكا بصوت عالي ثم ازالت المنديل من فوق راسها وربطته حول عينيه وقامت بتزرير القميص. ثم قالت له ( انت عارف اني معنديش الوسوسة دي يا سي احمد يعني خليك واثق فيا وخليني اساعدك لو لقيت اي حاجة ف فرشتك او ف هدومك
هاقولك اتفقنا؟ وزررتلك القميص زي الفل ومكوي ونضيف ماتراجعش ورايا بقي )فابتسم وقال اتفقنا يا لمضة ....وازالت من فوق عينه المنديل وقالت كمل لبسك بقي وانزل اتاخرت علي شغلك ويوم تلو الاخر ما كان يبذله من مجهود في ساعة من التفتيش والعناء إختزلته صباح ف ربع ساعة..
اعتادت علي وجود صديقاته واصدقائه ف التاسعة مساء ثم يغادرون ف الواحدة موعد نومه. إلا صديقة له موسيقية كانت تأتي منفرده دائما يوم الجمعة حاملة معاها العود شعرها كيرلي طويل ممشوقة القوام غالبا ترتدي بنطال چينز وقميص كاروهات او بلوزة حمالات وبنطلون اسود وتعزف تعزف في غرفته حتي صباح اليوم التالي تعرف عليها بعد خروجة باشهر في احدي حفلات دار الاوبرا
وذات صباح اثناء تنظيف صباح لغرفته اهتزت تحت قدميها البلاطتين فأزالتهما ووقعت عينيها علي عناوين مقالاته (ثورات هزت عروش البلدان قديماً ... ماذا فعلت ماليزيا لتصبح ماليزيا ؟) فصاحت يادي الغلب ينيلك عايز تخش المحروق تاني يادي الغلب .....ولم تخبره عن معرفتها بأمر البلاطتين
وفي احد أيام عطلاته ف العاشرة صباحاً سمعت دق علي باب الشقة يشبه دقات الحكومة فكانت عنيفة الباب يهتز من شدتها.... نظرت من العين السحرية التي وضعها احمد بعد خروجه من المعتقل وجدت ثلاث رجال بشوارب وأجسام ضخمة فهرولت الي أحمد وكان مازال نائما قائلة( قوم قوم انزل من سلم الخدم) ورفعت السجادة واخدت المقالات واعطتها له وكان أحمد مستغرباً من علمها بأمره ولكن الوضع كان غير مناسب علي الإطلاق لأي نقاش ثم هرولت وفتحت الباب وقالت ( فيه ايه ياباشا ؟) فرد قائلا (فين سيدك يا بت) قالت (خرج من ساعة ) فسألها احكيلي بقي بيعمل ايه طول الأسبوع ولو نسيتي كلمة هاخدك بداله)ردت بمنتهي الثبات قائلة( بيعمل ايه ف ايه؟ ده نسوانجي وبتاع شرب وازايز البيرة اهي اوريهالك يا باشا ف الزبالة أهي.. كل يوم سهر ومسخرة لوش الصبح ده كل اللي باشوفه.. ده انا ابويا قالي هايرجعني البلد بسبب قلة الأدب دي... فقام الظابط بتفتيش غرفته وازالة البلاطتين ولكنه لم يجد شيء فسأل صباح ( مال البلاطتين دول مخلوعين ومغطينهم ليه بالسجادة ) فأجابت (يعني بيت قديم ومشرخ مش عايز يبقي فيه ياباشا بلاط مكسور ) فازاحها من كتفها الايمن بيده وخرج ووقف أمام باب الشقة واخبرها ان تخبره بجملة واحدة ( لم الدور يا أحمد بدال ما نرجعك ماطرح ماخدناك قبل كده) وبعد نزولهم قامت بالاتصال به علي هاتفه المحمول واخبرته ( مشيوا يا سي احمد تعالي ) وبمجرد رجوعه قصت عليه ما حدث ...وكأن كل الماضي وشريط تعذيبه مر أمام عينيه فترغرغت عيناه بالدموع ووضع رأسه بين كفيه وبكي كالأطفال فقالت له (وإيه اللي رميك ع المر أنا لما شوفت البلاطتين وانا بامسح الأوضة خوفت عليك اوي ) فرد قائلا (والله باكتب لنفسي مش لحد هاتجنن لو مطلعتش كلامي ع الورق يا صباح ) قالت له ما انت بتكتب قصص وسامعاك بتحكيها لصحابك وحلوة اوي يا استاذ احمد خليك فيها أحسن وبعدين ام شعر منكوش دي اللي بتصدعنا يوم الجمعة جاسوسة هي اللي قالتلهم ايش عرفهم بالبلاطتين ؟ وحاولت تخفيف ذعره بخفة دمها ..وبعدين بتقعدوا للصبح عمالين تخبطوا ع البتاع اللي ف ايدها ده؟ فأجابها (اه يا صباح)فردت بإبتسامتها الخبيثة ذات طابع خفيف الظل (طبعا وهو بعد الخبط والرزع ده هايبقي فيك حيل لحاجة ده انت كبيرك تاخد قرص مسكن صداع وتنام زي
القتيل )فابتسم ونظر لها بطرف عينيه ثم سرح بخياله وتذكر انه كان كثيرا يترك صديقته وحدها في غرفته وانه اخبرها بكتابة مقالات سراً ولم ولن يتم نشرها ويخفيها بغرفته ....وتأكدت شكوكه بإنقطاع أخبارها وتوقف اتصالاتها عنه .
ومر يوم تلو الٱخر وجاء اليوم لتخبره صباح انها سوف تترك العمل (جالي عريس من البلد ولازم بقي اتجوز ده انا بيقولوا عليا عانس ف البلد .... حدانا البت يبقي عندها سته وتلاتين سنة وتبقي جدة وأنا لسه حتي متجوزتش) ليضحك ويقول لها ( ماتيجي اتجوزك يابت يا صباح) فترد عليه بخجل ( انت بتضحك بس كلامك فيه جد انا عارفة يا سي أحمد مش معني اني قريت كلمتين وباتفرج معاك علي البرامج اللي بتحبها وخبيتك م الحكومة اننا شبه بعض انت بس حبيت فيا حنية امك حنية الفلاحين بس لو اتجوزتني هاتزهق وهاتروح للبنات بتوع مصر اللي زي البت المنكوشة الجاسوسة مش هتتباهي بيا وسط الخلق هابقي بتاعة البيت بس ولكي تتفادي كسوفها قالت ضاحكة وبعدين يا سي أحمد أنا متجوزش رد سجون زيك )فضحك وقبل جبينها قائلا (انتِ ست البنات ياصباح هاييجي يوم واكتب عنك عرفت رجالة وستات كتير اوي بس معرفتش حد بجدعنتك يا لمضة) وبالفعل جمعت ملابسها صباحاً في حقيية سفر أهداها إياها أحمد وقام بتوصيلها لموقف الزقازيق
وعاد للمنزل وكل صباح يتذكر كم أزالت عنه عبء وسواسه القهري حتي تم شفائه وتركت منديلها التي اغمضت به عينيه ربما عن عمد او عن غير عمد كان يدخل غرفتها ويقف ويتنفس منديلها الوردي وعندما يشعر بالوحدة ينام في غرفتها يشعر بروحها حوله وكان يتذكر دموعها حينما ترتعش يداه نتيجة العقاقير المهدئة والمضادة للاكتئاب وكان يطمئنها قائلاً (بعد ما ابطل الادوية كل ده هايروح )
حتي جاء يوم صار أسعد ايام حياتها.... وهي جالسة علي الأرض تداعب طفلها الذي يبلغ ثلاثة اعوام لترفع عينيها للتلفاز علي موسيقي مقدمة مسلسل لأحد نجومها الكبار المفضلين لتري اسم المؤلف (أحمد شاكر )واسم المسلسل (حكاية صباح )استندت بيديها علي الاريكة بجوارها متمتمه بصوت هامس ( الله يحميك وينجحك دايما يارب يا سي أحمد ويجبر بخاطرك ٱمين ) وسالت دموع من عينيها لاتعلم ان كانت دموع فرح أم اشتياق.....


