حسين السمنودي
العذراء أنجبت، والرضيع تكلّم، والعجوز حملت، والعاقر أنجبت، والغائب عاد، والمريض عُوفي. القمر انشق، والنائمون استيقظوا بعد سنين طوال، والقلة غلبت الكثرة، وعرش ملكةٍ في اليمن انتقل إلى الشام في طرفة عين. بطن الحوت لم يهضم، والنار لم تحرق، وكل ما ظنه البشر مستحيلًا… تحقق.
لم تكن هذه الوقائع خيالًا ولا أساطير تُروى، بل شواهد حيّة على أن قوانين الكون ليست حاكمًا على الله، بل خاضعة لأمره. الأسباب عند البشر حدود، وعند الله أدوات، إن شاء فعل بها، وإن شاء تجاوزها، وإن شاء ألغى أثرها تمامًا. فالقدرة الإلهية لا تتوقف عند منطق، ولا تُقاس بحساب، ولا تُقيَّد بزمن أو مكان.
حين نقرأ هذه المشاهد الإيمانية، ندرك أن المستحيل كلمة بشرية وُلدت من ضيق الرؤية، لا وصفًا إلهيًا. ندرك أن ما يُرعب القلوب اليوم، وما يطحن الأرواح، وما يُشعرنا بالعجز الكامل، ليس أكبر من كلمة واحدة يقولها الله فيكون. ربٌ قريب، سميع، مجيب، يعلم خفايا الصدور، ويسمع أنين القلوب قبل نطق الألسنة، ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وفي زمنٍ امتلأ بالجوع والخوف، وتكسّرت فيه الأحلام على أعتاب الظلم، وتراكم فيه الألم حتى ظن البعض أن الدعاء لم يعد يُجدي، يعود الإيمان ليُذكّرنا أن السماء لم تُغلق، وأن الله لم يتغيّر، وأن القدرة ذاتها التي صنعت المعجزات بالأمس، ما زالت حاضرة اليوم. الفرق فقط في يقين القلوب.
نحن لا نطلب أمرًا عظيمًا على الله، بل عظيمًا علينا. نطلب نصرًا للمظلومين، وشبعًا للجائعين، وأمنًا للخائفين، وجبرًا للمنكسرين. نطلب لأننا نؤمن أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن كل قوة سواه زائلة، وكل طغيان إلى أفول، وكل ظلام إلى انكسار.
وفي ختام هذا اليقين الذي لا يشيخ، نقف لا لنُنهي الكلام، بل لنرفعه إلى السماء. نقف ونحن نعلم أن أعظم ما في الإيمان أنه لا يعترف بالهزيمة، ولا يُصافح اليأس، ولا يوقّع على شهادة النهاية. ما نراه اليوم من قسوة الواقع ليس دليل غياب، بل اختبار ثقة، وامتحان صبر، وسؤال صريح للقلوب: هل يثبت الرجاء حين تتأخر الإجابة؟
إن المستحيل يسقط دائمًا حين يتكفّل به الله. قد يتأخر الفرج، لكنه لا يُلغى، وقد يطول الليل، لكنه لا ينتصر. كل دمعة لها حساب، وكل وجع له موعد، وكل دعاء مخزون إلى أن تحين ساعة الكرم الإلهي الذي يأتي بغتة، فيُدهش القلوب قبل العيون.
فيا رب، إن كان في قضائك تأخير، فليس فيه حرمان، وإن كان في قدرك ابتلاء، فليس فيه خذلان. علّم قلوبنا أن تطمئن، وأن تنتظر بثبات لا بضعف، وبثقة لا بتردد. اجعلنا ممن إذا ضاقت بهم الأرض اتسعت لهم السماء، وإذا انقطعت بهم الأسباب وصلوا بك، وإذا أثقلهم الواقع خفّفهم اليقين.
اللهم آتنا سُؤلنا، وانصر إخواننا، وأطعم من جاع، وآمِن من خاف، واجعل لنا من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل دمعة سكينة. إنك أنت الله… وحين يكون الله، فلا معنى للمستحيل.