حسين السمنودي
في أرضٍ كانت تُعرف بسلة غذاء إفريقيا، يسيل اليوم الدم حتى صار النيل يخجل من جريانه. السودان، الذي أنهكته الحروب والانقلابات، يعيش الآن فصلًا جديدًا من المأساة الإنسانية، لا يختلف في قسوته عن أفظع ما سجلته كتب التاريخ من مذابح، بل ربما يفوقها وجعًا وألماً.
تلك الميليشيات المسماة «الدم السريع» تمارس كل صنوف الإجرام وكأنها خرجت من رحم الجحيم، لا تعرف حرمة لإنسان، ولا توقيرًا لامرأة، ولا رحمة بطفل. قرى بأكملها أُحرقت، وبيوت دُمرت، وأجساد المدنيين تُركت في الشوارع فريسة للكلاب الضالة والغربان. من ينجُ من رصاصهم، تلاحقه المجاعة والعطش والمرض، وكأن الموت يتربص بأهل السودان من كل اتجاه.
ولم تكن مدينة الفاشر بمعزلٍ عن هذا الجحيم، بل كانت شاهدة على واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث. عند سقوط المدينة، تحوّلت الشوارع إلى أنهارٍ من دم، وسقط الأبرياء في الطرقات والمزارع والبيوت بدمٍ بارد، وكأن القتلة ينتقمون من الحياة نفسها. شهد العالم كيف أُبيدت الأسر، وكيف أُحرقت البيوت فوق ساكنيها، وكيف تعمّد المجرمون ترك الجثث في الطرقات لتكون رسالة رعبٍ متعمدة، تحمل توقيع الحقد والانتقام.
في الفاشر، لم يعد هناك فرق بين من في السوق أو من في بيته؛ الكل سواء في نظر القتلة. فُتحت النار على الناس دون تمييز، وهاجم المسلحون كل حيٍّ آمن، فعمّ الخراب وأصبح الهاربون يركضون في الصحراء بحثًا عن ظلٍّ لا وجود له. مزارع القمح تحولت إلى رماد، وآبار المياه صارت قبورًا جماعية، والمستشفيات نُهبت وقُصفت، حتى لم يبقَ للسودانيين سوى دموعهم وقلوبهم المثقلة بالحزن.
المأساة ليست فقط في القتلة الذين يضغطون على الزناد، بل في من يقف وراءهم ويدعمهم بالمال والسلاح. هناك دول إقليمية تمد هذه الميليشيات القاتلة بما تحتاجه من تمويل وتسليح، لا حبًا في السودان، بل طمعًا في موارده وساحله وموقعه الجغرافي. وهكذا، صار الدم السوداني وقودًا لصراعات النفوذ، تُدار بالمال من الخارج وتُنفّذ بالرصاص في الداخل.
أين العالم؟ أين من يزعم الدفاع عن حقوق الإنسان؟ لماذا كل هذا الصمت أمام مذبحةٍ تُرتكب على مرأى ومسمع الجميع؟ هل دم السوداني أقل شأنًا من دماء غيره؟ أم أن الخرائط تُرسم بالدم طالما أن الضحايا عرب ومسلمون؟ أسئلة تقف كطعنةٍ في وجه الإنسانية، ولا تجد إجابة سوى وجوهٍ متجمدةٍ لا تبالي، وألسنةٍ لا تنطق إلا عندما تمس مصالحها.
لقد أصبح السودان اليوم مرآةً تعكس حجم الانهيار الأخلاقي الذي وصل إليه العالم. أرضٌ تُباد على مرأى من الأمم، وأصواتٌ تتعالى ثم تخبو، وأجسادٌ تُدفن دون أسماء. ما يجري هناك ليس صراعًا على سلطة، بل خطةٌ مدروسة لتدمير شعبٍ بأكمله، لإفراغ البلاد من أهلها، وجعلها ميدانًا مفتوحًا لأطماعٍ خارجيةٍ تتقاسم ما تبقّى من التراب.
وفي السودان الآن، الليل لا يمرّ بسلام، والصباح لا يُنقذ أحدًا من خوفٍ بات رفيقًا دائمًا. في الفاشر وغيرها، لم تكن القتلى أرقامًا في قائمة إحصائية فحسب، بل بشرٌ ماتوا ببطءٍ أمام أعين العالم؛ قُتلوا في الشوارع والمزارع والبيوت بدمٍ بارد، كما لو أن من ارتكبوا هذه الجرائم يريدون أن يتركوا أثرًا من الرعب لا يُمحى. من يمدّ هذه الميليشيات بالدعم يعرف أنه يزرع ذرائع الخراب بأيدي أبناء هذا البلد، وأنه بذلك يشارك في تصفية حياة أمةٍ بأكملها.
إن دماء هؤلاء الأبرياء لا تحتمل مزيدًا من التبريرات أو الحسابات السياسية. علينا أن نسمع نداءاتهم، وأن نحمل حقيقتهم دون تحيّز: إنّ السكوت على الجريمة أو تجاهلها هو شراكةٌ في الجريمة نفسها. لا عدالة دون توثيق ومحاكمات حقيقية، ولا إنصاف دون ضغطٍ شعبي وأخلاقي مستمرّ يطالب بمحاسبة كل من شارك أو درّب أو موّل أو سكت.
رحم الله شهداء السودان، ورفّق بجرحى أمّتهم، ولعن كل يدٍ ساهمت في ذبح هذا الوطن أو سكتت عن آلامه. فالمسألة ليست شأنًا داخليًا يُطوى، بل جرحٌ عربي وإسلامي يطالنا جميعًا، والواجب أن نكون صوتًا لمن لا صوت لهم حتى يرفع الله هذا البلاء عن أرضٍ عانت ما يكفي من البؤس.