حسين السمنودي
حين يرحل الإنسان عن مكانٍ ما، لا يُقاس حضوره بعدد الأيام التي قضاها فيه، بل بالأثر الذي تركه خلفه. فبعض الناس يمرّون مرور العابرين، لا يُذكرون إلا بالأسماء، بينما آخرون يتركون بصمةً تبقى حيةً في الذاكرة، تسري في النفوس كما يسري العطر في المكان بعد رحيل صاحبه.
جميل الأثر هو ذاك العمل الطيب الذي لا يزول صداه، والكلمة الصادقة التي تُقال في وقتها فتنقذ روحًا من انكسار، والابتسامة التي تُزرع في وجهٍ حزين فتُعيد إليه الحياة. هو صدقة جارية من المشاعر والنيات، لا تحتاج مالًا ولا جاها، بل تحتاج قلبًا نقيًا يعرف قيمة الخير في زمنٍ شحّ فيه الوفاء.
كثيرون يظنون أن الأثر لا يكون إلا في إنجازٍ كبير أو شهرةٍ واسعة، لكن الحقيقة أن الأثر الحقيقي يكمن في التفاصيل الصغيرة؛ في موقفٍ نبيل، في نصيحةٍ خالصة، في سلوكٍ راقٍ يعكس تربيةً أصيلة وضميرًا حيًا. فربّ كلمةٍ طيبةٍ قيلت بلا قصد، غيّرت حياة إنسانٍ إلى الأبد.
جميل الأثر أن تترك وراءك ذكرى طيبة في قلوب الناس، أن يذكروك بخيرٍ حين لا تكون حاضرًا، وأن يترحموا عليك بصدقٍ حين تغيب. فما أجمل أن يُقال: “مرّ من هنا إنسان، كان قلبه أبيض، وفعله جميل، وتركنا على طريق النور.”
وفي نهاية المطاف، لا يبقى للإنسان إلا ما صنعته يداه وما زرعته نياته في القلوب. المناصب تزول، والمال يفنى، والأيام تتقلب، لكن الأثر الجميل يظل شاهدًا على صاحبه مهما غاب الزمن. كم من أناسٍ رحلوا عن الدنيا، لكن أعمالهم ما زالت تتحدث عنهم، وكم من آخرين عاشوا طويلاً، ولم يتركوا سوى غبار النسيان.
الأثر الجميل لا يُورث، ولا يُشترى، بل يُصنع بالصبر والمواقف والصدق. هو أن تكون صادقًا مع نفسك، نقيّ السريرة، تُعامل الناس بخلقٍ كريم، لا رياءً ولا مصلحة، بل حبًا في الخير. هو أن تزرع شجرة ظلها لغيرك، وأن تُضيء شمعة قد تحترق بها نفسك لتُنير طريق سواك.
احرص على أن تترك في كل مكان تمرّ به بصمة خير، في بيتك، في عملك، بين أصدقائك، في الشارع، في كل علاقة تمر بحياتك، حتى وإن كانت عابرة. فالعمر مهما طال قصير، لكن الأثر الجميل يمكن أن يعيش دهورًا بعدك.
اجعل سيرتك عطرة، وذكراك طيبة، وأعمالك ناصعة كالبياض، حتى إذا ذُكر اسمك، ابتسم الناس وتذكروا أنك كنت رحمة تمشي على الأرض. فالأثر الجميل هو الخلود الحقيقي، والذكر الطيب هو الحياة بعد الموت، ومن عرف كيف يصنع أثرًا جميلًا، فقد فاز بحب الله أولًا، ثم بحب عباده إلى الأبد.