حسين السمنودي
دمياط… المدينة التي طالما تغنّى بها عشاق الفن اليدوي، واعتبروها عاصمة الخشب المنحوت على أنغام الحرفة والإبداع. على ضفاف النيل، حيث تتمازج رائحة الخشب المعتّق مع أصوات المطارق والمناشير، ولدت مدرسة دمياط في صناعة الأثاث، تلك المدرسة التي لم تكن مجرد مهنة أو تجارة، بل كانت حكاية متوارثة تحمل في طياتها سر الإتقان وروح الفن.
على مرّ عقود، كانت دمياط مقصد الملوك والأمراء، وملاذ عشاق الفخامة الرصينة، حيث خرجت من ورشها أرقى غرف النوم، وأجمل الصالونات، وأكثر الموبيليات تميّزًا ودقة. لكن، وكما يحدث لكل فن أصيل، مرّت هذه الصناعة بفترات انكسار، حين زحفت المنتجات الرديئة والمستوردة، وحين ضعفت روح الإبداع لحساب السرعة والتكلفة الأقل. ومع مرور الوقت، بدأت ملامح الأصالة الدمياطية تتلاشى، وكادت المهنة أن تتحول إلى مجرد صناعة تقليدية بلا بريق.
في هذا المشهد المربك، ظهر اسم الدكتور محمد الحطيبي كعلامة فارقة، رجل لم يكتفِ بالبكاء على أطلال الماضي، بل قرر أن يعيد صياغة الحاضر، وأن يردّ لدمياط هيبتها الفنية وريادتها في عالم الأثاث. لم ينظر الحطيبي إلى المهنة كحرفة جامدة، بل كفن حي يحتاج إلى من يوقظه، ويطوره، ويحميه من الابتذال.
بدأ الحطيبي مشروعه بإحياء ما أسماه "خصوصيات دمياط الفنية"، وهي تلك البصمات الدقيقة التي ميزت الأثاث الدمياطي عن أي إنتاج آخر. أعاد الاعتبار للنقوش اليدوية التي تحكي حكايات البحر والنيل، أعاد توظيف الزخارف الشرقية بروح معاصرة، وابتكر خطوط تصميم تمزج بين الحداثة والهوية المحلية. لم يكن هدفه تقليد الماضي، بل استلهامه ليواكب العصر.
اهتم الحطيبي كذلك بتأهيل جيل جديد من الصناع والفنانين، فأطلق ورش تدريبية، وفتح أبواب مشاغله للشباب، ليكتسبوا ليس فقط المهارة اليدوية، بل أيضًا الذائقة الفنية التي تصنع الفرق بين قطعة أثاث عادية وأخرى تنبض بالحياة. آمن بأن الخشب ليس مجرد مادة خام، بل كائن يمكن أن يتحول إلى تحفة إذا لامسته يد تعرف قيمته.
ولم يغفل الحطيبي عن التحدي الأكبر: المنافسة العالمية. فقد أدرك أن الأثاث الدمياطي يجب أن يخرج من حدود السوق المحلية، فعمل على دمج التكنولوجيا في مراحل التصنيع، واستعان بتقنيات التشطيب الحديثة، ليضمن جودة تنافس أرقى الماركات العالمية. ومع ذلك، حافظ على الروح الدمياطية في كل قطعة، حتى وإن حملت لمسات عصرية.
اليوم، بفضل هذا الجهد المخلص، بدأت دمياط تستعيد موقعها على خريطة الأثاث العالمي، وبدأ اسمها يعود إلى المعارض الدولية بثقة، حاملاً توقيعًا واضحًا: فن دمياط، بإحياء الحطيبي. لقد أثبت أن الحفاظ على التراث لا يعني الوقوف عند الماضي، بل الانطلاق منه إلى مستقبل أرحب، حيث يلتقي الفن بالتطوير، وحيث يبقى الخشب شاهدًا على حكاية مدينة لا تعرف الانكسار.
ورغم ما عاد لصناعة الأثاث الدمياطية من بريق بفضل الجهود المخلصة، فإن الطريق أمامها ليس مفروشًا بالورود. فالتحديات كثيرة ومتراكمة، من ارتفاع أسعار الأخشاب والخامات، إلى المنافسة الشرسة من المنتجات المستوردة التي تسعى لسرقة السوق بأسعار مغرية وجودة أقل، مرورًا بغياب الدعم الكافي للحرفيين الصغار، وانحسار ثقافة التعلم اليدوي في أوساط الشباب. هناك أيضًا خطر ضياع الهوية الفنية في زحام الموضات السريعة، وهوية دمياط لا تُشترى ولا تُقلد، بل تُصنع بدم الحرفيين وعرقهم وصبرهم على أدق التفاصيل.
لكن التاريخ علمنا أن الفنون الحقيقية لا تموت، وأن المخلصين لوطنهم قادرون على مواجهة كل العواصف. هنا يبرز دور الشباب، فهم الأمل والحصن الأخير، وعليهم أن يلتفتوا إلى النماذج الوطنية الصادقة مثل الدكتور محمد الحطيبي، الذي لم يرضَ أن يرى تراث مدينته يتآكل أمام عينيه، فوقف مدافعًا عنه بإبداعه وفكره وعرقه. هؤلاء هم القادة الحقيقيون الذين يصنعون الفارق، لا بالكلام والشعارات، بل بالفعل والعمل والإصرار.
إن صناعة الأثاث في دمياط ليست مجرد تجارة، بل قضية هوية وانتماء، وعنوان لريادة مصر في الإبداع اليدوي. وكل قطعة أثاث تخرج من ورشها تحكي قصة وطن يرفض الاستسلام. فلنكن جميعًا، شبابًا وشيوخًا، جزءًا من هذه القصة، ندعمها، ونحافظ عليها، ونعلم أبناءنا أن الخشب يمكن أن يتحول على يد فنان إلى تحفة تخلد اسم صاحبها واسم بلده إلى أبد الدهر. فالأوطان تُبنى حين تتكاتف السواعد مع العقول، وحين يصبح الإبداع رسالة أجيال لا تنقطع.