حسين السمنودي
في زحام الشاشات، وسط جلبة العالم الرقمي، هناك أصوات لا تُرى ولكن تُسمع، لا تُعلن عن نفسها ولكن تفعل أفاعيلها في العقول والقلوب. إنها الكتائب الإلكترونية، جنود الفوضى غير النظاميين، الذين لا يحملون سلاحًا إلا الكلمة، ولا يرفعون راية إلا راية الخراب. في مصر، هؤلاء لا يُعاركوننا من الأمام، بل يطعنون من الخلف، يضربون تحت الحزام، بخبثٍ مدروس وتوقيتٍ مقصود، وكأنهم خُلقوا فقط ليشعلوا الفتن، ويفككوا الروابط، ويهدموا الثوابت، كل ذلك بأصابع صهيونية، وقلبٍ لا ينبض إلا بالحقد.
هؤلاء لا يعيشون بيننا كأفراد، بل كأفكار مسمومة تنفث سمومها في الوعي الجمعي، تبدأ بجملةٍ ساخرة، أو خبرٍ مفبرك، أو تحريفٍ متعمدٍ لتصريح، وتنتهي بشكٍّ في القيادة، وكراهيةٍ للجار، وتخوينٍ للمؤسسات، وازدراءٍ للرموز، وهجومٍ متعمدٍ على كل ما يوحِّد ولا يفرِّق.
الكتائب الإلكترونية ليست مجرد مجموعات تكتب من وراء الشاشات، بل معاول هدم تعمل على مدار الساعة لهدم جدار الثقة بين المواطن وبلده، بين الدولة وشعبها، وبين الشعوب العربية التي طالما وحّدها المصير وربطها الدم والدين واللغة. تلك الكتائب تُروّج أن الشقيق عدو، وأن العدو صديق، ويصوّرون كل قرار سيادي بأنه خيانة، وكل خطوة وطنية بأنها تآمر.
هؤلاء لا يريدون لمصر أن تقف، لأن وقوفها يعني انكسار مشروعهم، ولا يريدون لها أن تتقدم، لأن تقدمها يحرق أوراقهم. يخافون من وعي المصري، فيبثون فيه الشك. يخشون تاريخه، فيزوّرونه. يكرهون حضوره، فيسعون لتشويهه.
الأخطر أن هذه الكتائب لا تعمل عشوائيًا، بل بخطط ممنهجة، تبدأ بفتنة طائفية هنا، وتحرّض على القوات المسلحة هناك، وتدعو للخروج على القانون في مواضع أخرى. وربما لا يدرك الكثيرون أن من يُشعل هذه الحرائق ليس إلا عدوًا قديمًا يتقن التخفّي، يحرك أدواته بأيدٍ مصرية مأجورة أو مغفّلة، يموّل، يحرّض، يضحك في الخفاء على ما تفعله أيدينا بأنفسنا.
يا أبناء الوطن، إنّ هذه المعركة ليست عسكرية، لكنها لا تقل خطرًا، لأنها تستهدف العقل، والوعي، والروح. وكل منشور تشاركه دون تحقق، وكل معلومة تُرددها دون وعي، قد تكون أنت بها جنديًا في كتيبة هدمٍ لا تعلم عنها شيئًا.
لنحذر من الوقوع في الفخ، ولننتبه أن الكلمة قد تقتل، والشك قد يهدم، وأن الوطن حين يُخدش في وعي أبنائه، يكون قد بدأ النزيف الصامت. الوطن لا يُحمى فقط بالدبابة، بل بالفكرة، ولا يُدافع عنه فقط من في الجبهة، بل من في البيت والشارع والمدرسة والمقهى. فليكن كل واحد منا درعًا لهذا الوطن.
لا تدع لصهيوني خسيس أو أجير مأجور أو عميل غافل أن يجعل منك خصمًا لوطنك، وعدوًا لأهلك، وأداةً لهدم بيتك.
فلا تكن وقودًا لمعركة لا تعرف نارها من أين أُشعلت، ولا تكن سببًا في فتنةٍ لن يُبقي سعيرها على أحد. كن مصريًا بحق... واعيًا بشرف.
لأنك إن لم تكن مع وطنك في معركته الهادئة، كنت عليه في صمتك، وكفى بذلك خيانةً لا تغتفر.