recent
أخبار ساخنة

من نبض الشقاء تولد العظمة/شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS
من نبض الشقاء تولد العظمة

حسين السمنودي

في قلب كل شارع شعبي، وفوق أرصفة التعب، وبين جدران البيوت البسيطة، تعيش "الست المصرية الأصيلة الشقيانة"، التي لم تتعلم يومًا الاستسلام، والتي ولدت وفي يدها مفاتيح الصبر، وعلى كتفيها جبال من المسؤوليات، وداخل قلبها وطن صغير اسمه "البيت".

ليست الست الشقيانة هي فقط من نراها تحمل سلة الخضار، أو تكنس السلم، أو تبيع المناديل عند إشارات المرور، لكنها صورة أوسع وأعمق من كل ذلك. إنها البسيطة التي تتحمّل قسوة الزمن، والذكية التي تدير بيتها بحكمة، والمجتهدة التي تحفظ ميزانية الشهر من الجنيه الأول حتى آخر رغيف خبز. هي من تعمل بالنهار، وتُرضع طفلها في المواصلات، وتعود في المساء لتذاكر لابنها وتُصلح زرًّا في قميص زوجها.

هي المرأة التي لم تنم يومًا دون أن تفكر ألف مرة: هل وفّرت ثمن الحفاضات؟ هل غلّبت ابنها في المدرسة؟ هل سيتوفّر الأكل للغد؟
هي من تُحرم نفسها من جديد الثياب، وتشتري لأولادها أحذية جديدة، فتقول: "مش مهم أنا، المهم العيال".

في الريف، نجدها تخرج فجراً إلى الأرض، تحصد الزرع، وتطعم المواشي، وتعود تطهو الطعام وتغسل الملابس في المياه الباردة، بينما صديقاتها في المدن يُدلّلن في مكاتب مكيفة.
وفي المدينة، نجدها عاملة نظافة، أو بائعة على الرصيف، أو موظفة تستقل ثلاثة مواصلات ذهاباً وإياباً، فقط لتحصل على مرتب بسيط، لكنه طاهر وشريف.

هي التي واجهت التغيرات المجتمعية بصدرها، حاربت غلاء المعيشة، ووقفت كالجبال في وجه العوز والمرض. وربت أبناءها رغم شظف العيش، علمتهم القيم، وربتهم على الشرف، وأخرجت للأمة الطبيب والمهندس والمعلم والجندي.

المرأة المصرية الشقيانة هي أرملة الشهيد التي تخلّت عن حزنها لتواصل المسيرة وحدها، تربي أولادها دون أن تُظهر دموعها، وتحمل اسم زوجها الشهيد على جبينها بفخر.
هي المطلقة التي تحمل لقبًا قاسيًا في مجتمع لا يرحم، لكنها تنهض رغم الإهانة، وتبني من الألم بيتًا لأطفالها، دون أن تمد يدها لأحد.
هي زوجة العامل البسيط الذي بالكاد يوفر قوت يومه، لكنها تخلق من القليل كثيرًا، وتضع بصمتها في كل زاوية من زوايا البيت.

هي الفتاة الصغيرة التي تركت التعليم لتساعد أمها في بيت الغير، أو لتعمل في ورشة خياطة أو مصنع، بدلاً من أن تحمل الحقيبة المدرسية.
هي التي تقف في طابور الجمعية لشراء السكر والزيت، وتحمل أنبوبة البوتاجاز على كتفها، وتسير بها تحت حرارة الشمس دون أن تشتكي.

هي الجدة التي حملت أعباء الأبناء والأحفاد، وبقيت تمارس أمومتها رغم الشيخوخة، تحفظ الأغاني القديمة، وتحكي الحكايات في ليالي الشتاء، وتدعو لأبنائها في السحر والناس نيام.

هي الممرضة التي لم تنم أيام كورونا، والمعلمة التي احتملت طلابها رغم قلة التقدير، والعاملة التي نظفت الشوارع دون أن يعرف أحد اسمها.

المرأة المصرية الشقيانة عاشت كل مراحل الحياة بحلوها ومرّها، لم تطلب من الدنيا إلا الستر، وكانت مستعدة أن تعطي عمرها فداءً لأولادها. ضحّت بأنوثتها، بوقتها، بشبابها، بل بصحتها، كي لا يشعر بيتها بالنقص، أو يرى أحدهم دمعتها.

ومع كل ذلك، نادراً ما سألها أحد: كيف حالك؟ هل أنتِ متعبة؟ هل تحتاجين لراحة؟
بل اعتاد الجميع أن تكون "هي الحصن"، و"هي الأساس"، و"هي التي لا تضعف أبداً".
لكن الحقيقة أن داخلها أنين لا يسمعه أحد، وأحلام مؤجلة، ورغبات مدفونة تحت أكوام المسؤوليات.

إننا إن أردنا أن نعرف سر صمود مصر في وجه الأزمات، فلننظر إلى "الست المصرية الأصيلة الشقيانة"، فهي الجندي المجهول في معركة البقاء، وهي الوتد الذي تسند عليه بيوت مهددة بالانهيار، وهي الملاك الذي ينام مبللاً بالعرق ولا يشكو، ليحيا الآخرون.

وفي الختام، تبقى الست المصرية الشقيانة مثالًا خالدًا يُدرّس في كتب الحياة، لا الجامعات.
تستحق وسام الشرف من كل مؤسسات الدولة، وتكريمًا لا يُنسى من الإعلام والثقافة، ودعمًا حقيقيًا يُعيد لها حقوقها الضائعة.
فهي لم تكن مجرد امرأة، بل كانت وطنًا من لحم ودم.
تعبت... لكنها لم تتوقف.
انكسر ظهرها... لكن قلبها ظل عامرًا بالحب.
سقطت دموعها في الخفاء... لكنها رفعت رؤوس الجميع في العلن.
هي ست الكل... وهي تاج على رؤوسنا جميعًا.
ومن نبض شقائها، تولد العظمة.
google-playkhamsatmostaqltradent