(1)
حسين السمنودي
مصر، ذلك الوطن الذي يحمل عبق التاريخ بين ضفتي نيله، لم تكن يوماً مجرد أرض أو حدود، بل كانت دوماً قلباً نابضاً بالحب والدفء، ينبض في صدور أبنائها الطيبين، من أقصى صعيدها إلى دلتاها الهادئة، ومن عشوائيات المدن إلى أزقتها الراقية. المصري، ذلك الإنسان الذي يحمل من الطيبة والحنان ما لا يُقاس، لم يتغير كثيراً عبر العصور، بل ظلت بصمات النقاء والصفاء محفورة في طباعه وإن تغيرت ملامح الحياة من حوله.
في الماضي، كان أهل الريف والمناطق الشعبية يتميزون بقلوبهم النقية وسرعة عفوهم، فما إن يختلف اثنان حتى تسكن الخصومة قبل غروب الشمس، وتتصافى النفوس عند أول مناسبة أو حتى عند "كوب شاي" يُقدم بابتسامة خجولة. في القرى كانت البيوت مفتوحة على بعضها، لا أبواب تُغلق إلا وقت النوم، والجيران أهل لا فرق بينهم وبين الدم، يقتسمون اللقمة، ويتبادلون الهمّ والفرح. وكان الحب فطرياً، صادقاً، لا تشوبه مصالح ولا تلوثه مطامع.
وفي المدن، رغم الزحام والضغوط، ظل المصري محتفظاً بوجهه البشوش، يبتسم في وجه الغريب، ويقف ليساعد المحتاج، ويُجامل حتى في عزّ ضيقه. ستجده في المواصلات العامة يترك مقعده لكبير السن، وفي الشوارع يهرول خلف طفل ضائع ليعيده لأمه، وفي الأفراح يبتهج حتى لو لم يعرف العريس، وفي الأحزان يقف واجماً كأن المصاب مصابه.
وعلى مرّ السنين، كانت "الجدّة" في القرية تمثل مخزن الحنان، وصندوق الذكريات، وحافظة القيم. وكانت الأم المصرية رمزاً للفداء، تُربّي أولادها على الحب والخوف من الله، وتحكي لهم قصص البطولة والأمانة. أما الأب فكان قدوة في الكفاح والرضا، يحمل همّ أسرته بصبر نادر، ويزرع في أبنائه الصدق والشهامة والكرم.
اليوم، ورغم زحف التكنولوجيا، وضجيج المدينة، وتبدّل العادات، فإن جوهر الإنسان المصري ما زال مشعًّا بالدفء. نراه في شباب يتطوع لمساعدة المرضى، في مبادرات الخير التي تُطلق من قلب الأحياء الشعبية، في فاعلي الخير الذين يطوفون ليلاً لتوزيع الطعام والبطاطين دون أن يعرفهم أحد. نراه في البسطاء الذين ما زالوا يُقابلون الإساءة بالصبر، وفي نساء الحارات اللواتي يرفعن أيديهن بالدعاء لكل مظلوم، وفي الأطفال الذين يُلقون السلام على المارّين بلا معرفة.
إن الطيبة التي تسكن قلوب المصريين ليست حالة مؤقتة، بل هي جزء من التركيبة النفسية والروحية لهذا الشعب. قد تخبو لحظة، لكنها لا تموت. قد تُرهقها الظروف، لكنها تعود لتُضيء المشهد بأصالة نادرة، وخلق رفيع، وأدب عفوي .
إن قلوب المصريين الطيبة هي الثروة الحقيقية لهذا الوطن، وهي الحصن المنيع الذي يواجه به الشعب تقلبات الزمان وقسوة الأحداث. قد يواجه المصري ضيق العيش، وقد يُكابد من غلاء أو ظلم أو ظروف صعبة، لكنه لا يفقد إنسانيته، ولا يتخلى عن أصله الطيب. وقد يعلو الغبار على وجه الأيام، لكن أول نسمة صفاء تُعيد لقلوبهم نقاءها الفطري، وتُظهر ما اختبأ من خير تحت ركام التعب.
في كل أزمة مرت على مصر، كان المعدن الأصيل لأبنائها هو السند والدعامة، وكان طيبهم وتكاتفهم هو الملجأ الحقيقي. لم ينكسروا، لأنهم لا يعرفون إلا أن يُحبوا ويغفروا ويُساندوا بعضهم، حتى وإن أساء إليهم الزمان. ومن يتأمل وجوه المصريين في الأسواق، في الشوارع، في الحقول، في البيوت القديمة، في حكايات الجدات، سيعرف أن هذه الأمة لا تموت، لأن قلبها لم يُخلق إلا للخير.
هي مصر، بكل ما فيها من تناقضات، تبقى جميلة بقلوب ناسها. وإن أردت أن تعرف حقيقتها، لا تنظر إلى بناياتها أو ازدحامها، بل فتّش عن قلب أم تبتسم لابنها، وعن دعاء عجوز في شرفة منزله، وعن يد تمتد لتساعد دون مقابل، وستعرف أن الطيبة هنا ليست صفة، بل جذر في تربة هذه الأرض المباركة.
وستظل مصر بخير… مادامت قلوب أهلها تنبض بالخير.