حسين السمنودي
في زمنٍ أصبح فيه الإعلام هو اللسان الناطق بالحقيقة أو الزيف، تحوّل التضليل الإعلامي إلى أحد أخطر أسلحة الحروب الحديثة. لم يعد السلاح الفتاك هو القنبلة أو الدبابة، بل أصبحت الكاميرا والميكروفون وقنوات التواصل الاجتماعي أدوات للسيطرة وتشكيل الوعي الجمعي. إنها حرب ناعمة لكنها أكثر دموية من الحرب الصلبة، لأنها تستهدف العقول والقلوب قبل أن تستهدف الأجساد.
الحروب لم تعد مجرد مواجهات عسكرية بين جيوش نظامية، بل أصبحت صراعات متعددة الأوجه، يدخل فيها الإعلام كمحور رئيسي لتغيير الحقائق، وتزييف الوقائع، وتحويل الجاني إلى ضحية، والمُعتدى عليه إلى مُدان. وتكمن الخطورة في أن هذا التضليل لا يُمارس فقط على الخصم، بل يُوجَّه كذلك إلى الشعوب، لتهيئتها نفسيًا لتقبل المآسي أو تبرير العدوان أو غضّ الطرف عن الجرائم.
وأكثر ما يميز التضليل الإعلامي في الحروب الحديثة هو قدرته على صناعة الوهم بشكل محترف. لم تعد الأكاذيب تُقال بسطحية، بل تُبنى بعناية، مدعومة بصور، وفيديوهات، وتصريحات، وتحليلات يُشارك فيها خبراء ومؤثرون ومواقع كبرى. يتم تصميم المشهد الإعلامي بحيث تبدو الرواية المفبركة وكأنها الواقع، بينما تُدفن الحقيقة في ركام الأحداث.
ونلاحظ ذلك بوضوح في تغطيات الحروب الكبرى، مثل العدوان على غزة، أو الحرب الروسية الأوكرانية، أو حتى في النزاعات الأفريقية والآسيوية. تُبث الصور، ويُعاد تدوير اللقطات، ويتم إخراج المأساة كعمل سينمائي، يُصاحبه تعليق موجه يخدم جهة معينة. يُقطع الصوت من مشهد ويُركب على آخر، أو يُؤخذ تصريح من سياقه ليُستخدم في تبرير العنف. إنها عملية مدروسة بدقة تهدف لخلق واقع بديل تتعامل معه الجماهير على أنه الحقيقة المطلقة.
والتضليل الإعلامي لا يستهدف فقط تشويه صورة العدو، بل يُستخدم كذلك في كسر الروح المعنوية للخصم. تُبث شائعات عن تقدم القوات أو انهيار الجبهات، ويُصوّر المشهد وكأن النصر محسوم، بينما الحقيقة قد تكون عكس ذلك تمامًا. الغرض هو زرع الشك، وإثارة الفوضى النفسية داخل المعسكر المقابل.
بل الأدهى من ذلك، أن بعض الجهات تستخدم التضليل الإعلامي لإثارة الانقسامات الداخلية داخل مجتمع الخصم، فتنشر إشاعات عن خيانات، أو فشل في القيادة، أو خيانة بعض الفصائل. كل ذلك جزء من "حرب نفسية" تستهدف تآكل الجبهة من الداخل.
ولقد منح الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي بعدًا أكثر خطورة للتضليل. فاليوم لم يعد من الضروري إرسال مراسل أو حتى تحرير فيديو، إذ يمكن بـ"ضغطة زر" إنتاج صورة مزيفة أو فيديو كامل باستخدام تقنيات "التزييف العميق" (Deepfake) يظهر فيه زعيمٌ وهو يعلن الاستسلام، أو جنرالٌ يعترف بجرائم لم تحدث.
والأخطر أن وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت المصدر الأول للأخبار لدى ملايين البشر، تُستخدم كبؤر ضخمة لبثّ الإشاعات، عبر حسابات مزيفة أو جيوش إلكترونية، تديرها غرف عمليات متخصصة في قلب الحقائق وصياغة الروايات حسب الهوى السياسي. فبينما أنت تظن أنك تشاهد مقطعًا "من قلب الحدث"، تكون في الحقيقة ضحية لمعركة غير مرئية تُدار خلف الشاشات.
ولا يمكن فصل الإعلام المضلل عن الجرائم الكبرى التي تحدث في العالم. ففي كثير من الأحيان، يكون الإعلام شريكًا مباشرًا في تبرير الإبادة الجماعية، أو التغطية على جرائم حرب، أو التحريض على الكراهية الدينية والعرقية. ألم يكن الإعلام النازي بقيادة غوبلز هو من روّج لأفكار هتلر وقاد أوروبا إلى أتون جحيم؟ ألم تُستخدم الإذاعات في رواندا لتحريض الهوتو على التوتسي، مما أدى إلى واحدة من أبشع مذابح القرن العشرين؟
واليوم، يمارس إعلام القوى الكبرى الدور نفسه، ولكن بثوب ناعم، وعبر منصات عالمية ومؤسسات ضخمة، تجعل الكذب يبدو كأنه تقرير دولي، وتجعل العدل يبدو كأنه تطرف.
وفي ظل هذا المشهد المظلم، لا بد أن يتحمل المتلقي نفسه مسؤولية كبيرة. لم يعد من المقبول أن نصدق كل ما يُبث أو يُكتب أو يُقال. التحقق من المصادر، وفهم السياق، وقراءة أكثر من وجهة نظر، أصبح ضرورة لا ترفًا.
ولعل أخطر ما يواجهنا الآن هو حالة "التبلد الإعلامي"، حيث يتلقى الناس الكوارث والمذابح كما لو أنها مشاهد من مسلسل، دون أن يسألوا: من القاتل؟ من الضحية؟ لماذا يختفي صوت من قُتل ويعلو صوت من قتل؟
إن التضليل الإعلامي في الحروب الحديثة ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل هو جريمة مكتملة الأركان. ومع تطور أدوات التكنولوجيا، وازدياد سيطرة الكيانات الكبرى على وسائل الإعلام، تصبح المواجهة أكثر تعقيدًا، والحقيقة أكثر هشاشة، والكذب أكثر تنظيمًا.
لكن رغم ذلك، تظل هناك ومضات نور، في صحفي شريف، أو منصة مستقلة، أو إنسان قرر أن يبحث عن الحقيقة بنفسه. فالمعركة لم تنتهِ، والحقيقة رغم ضعفها، قادرة أن تصمد إذا وجد من يدافع عنها.