حسين السمنودي
في شوارع القاهرة، والإسكندرية، وسوهاج، وأسوان،وفي كل المحافظات المصرية . وفي أزقة القرى والنجوع والأحياء الشعبية ، بات مشهد الكلاب والقطط الضالة مألوفًا لا يثير استغراب أحد، رغم ما يحمله من خطر محقق على حياة الناس، وخاصة الأطفال. وكأننا اعتدنا الرعب، وتكيفنا مع الخوف، في مجتمع تتجول فيه الحيوانات الضالة بحرية تامة وكأنها صاحبة الأرض، بينما الإنسان يبحث عن ممر آمن في وطنه، يحتمي فيه من أنياب مفترسة أو صراخ صغيره الهارب من مطاردة كلب شارد.
إن ظاهرة الحيوانات الضالة في مصر تحولت من مجرد حالة فردية أو مشاهد عابرة إلى أزمة مجتمعية متفاقمة تمس الأمن العام، والصحة العامة، والتوازن البيئي. فالعدد المتزايد لتلك الحيوانات، خاصة الكلاب، صار يهدد التعايش السلمي في المدن، ويزرع الخوف والذعر في قلوب الناس، ويخلق حالة من الفوضى البيئية والصحية، في ظل غياب رؤية حقيقية لمعالجة المشكلة.
يكفي أن تمر صباحًا أمام مدرسة ابتدائية في أحد الأحياء الشعبية لترى بأم عينك مشاهد الهلع: أطفال يجرون في غير هدى خوفًا من كلب شارد، وأمهات يتابعن بقلق، وآباء يتحركون في صمت عاجز بعد أن أبلغوا الحي مرارًا دون استجابة. الطفل الذي يُطارد في الخامسة من عمره لا يعود مطمئنًا بسهولة، بل يظل الخوف رفيقه حتى الكبر. فما يحدث من هذه الحيوانات لا يقتصر على الأذى الجسدي، بل يصل إلى التدمير النفسي، خاصة للأطفال الذين يتعرضون لصدمات متكررة دون أن يشعر أحد بآثارها الطويلة المدى.
من الجانب الصحي، تكمن الكارثة في الخطر الداهم من الأمراض التي تنقلها هذه الحيوانات، وعلى رأسها داء الكلب (السعار)، والذي لا يزال يحصد أرواحًا سنويًا في مصر، رغم التطور الطبي. وتنتشر كذلك أمراض الجلد والطفيليات بسبب تلامس الأطفال مع القطط الضالة، أو بسبب وجود تلك الحيوانات قرب المنازل، والأسواق، وأماكن لعب الصغار. وتتحول القمامة إلى موائد مفتوحة لهذه الحيوانات، ما يجعلها حاضنة لأوبئة خطيرة، في غياب جمع منتظم للنفايات.
البعض يتحدث عن دور الكلاب الضالة في حماية التوازن البيئي، مثل القضاء على بعض القوارض، وهو مبرر يُستخدم كثيرًا للهروب من الحلول. ولكن الحقيقة أن أي توازن بيئي يفترض وجود دور منظم، وعدد محدود ومراقب، لا انفجار عددي عشوائي يهدد الناس والحيوانات الأخرى، ويخل بمنظومة الحياة المدنية. التوازن البيئي لا يعني الفوضى، بل يعني تنظيم العلاقة بين الكائنات والبشر بطريقة تحفظ الحق في الحياة للجميع، دون خوف أو تهديد.
بعض المحليات لا تزال تلجأ إلى أساليب بدائية لمواجهة الأزمة: قتل الكلاب بالسم أو الرصاص. وهو حل غير إنساني، وقصير الأمد، وغالبًا ما يُقابل بغضب شعبي واستنكار من جمعيات الرفق بالحيوان، ناهيك عن كونه لا يعالج أصل المشكلة. الكلاب تتكاثر، وتعود من جديد، ما دامت البيئة مناسبة، والقمامة منتشرة، والرعاية البيطرية غائبة.
لكي نواجه هذه الظاهرة بشكل فعلي ومستدام، لا بد من الاعتماد على مجموعة من الحلول غير التقليدية، ومنها: إطلاق حملة وطنية للتعقيم الجماعي تنفذها الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص، وجمعيات الرفق بالحيوان، لتقليل التكاثر العشوائي للكلاب والقطط بطريقة علمية، دون اللجوء للقتل. إنشاء مراكز إيواء ورعاية خاصة في أطراف المدن، تُخصص لجمع الحيوانات الضالة، وتوفير رعاية بيطرية لها، مع فتح المجال لتبنيها من قبل المواطنين الراغبين. إصدار قانون رادع لإلقاء الحيوانات المنزلية في الشوارع، مع تغليظ العقوبات على من يتخلى عن حيواناته، أو يتركها بدون تطعيم أو رعاية. الاستفادة من التكنولوجيا بتركيب شرائح إلكترونية في الكلاب الأليفة لتتبعها، ومعرفة أماكنها، وتنظيم وجودها في المناطق السكنية. إدماج التوعية البيئية في المناهج الدراسية والإعلام لتعزيز ثقافة التعامل المسؤول مع الحيوانات، وشرح مخاطر الإهمال أو سوء التعامل معها. التنسيق بين الوزارات، خصوصًا بين وزارة البيئة، والتنمية المحلية، والزراعة، والصحة، لتوحيد الجهود، ووضع خريطة وطنية للتعامل مع الأزمة بدلًا من المعالجات الجزئية.
إن استمرار هذا الوضع يعني أننا نُعرض مستقبل أطفالنا للخطر، ونُفرغ شوارعنا من الأمان، ونخاطر بانتشار أمراض قاتلة قد تعجز الدولة لاحقًا عن احتوائها. ليست القضية مجرد "كلب ضال" أو "قطة جائعة"، بل قضية وطن كامل بحاجة إلى تدخل عاجل ومدروس، يعيد للمواطن الشعور بالأمان، ويعيد للشارع المصري شكله الحضاري.
لقد آن الأوان لنعلنها صراحة: لا بد من إنهاء ظاهرة الحيوانات الضالة في الشوارع، ولكن بإنسانية، وبعلم، وبإرادة سياسية لا تعرف التراخي. لأن الرعب الذي يزرعه كلب شارد في قلب طفل، لا يُعالج بمرور الوقت، بل يُعالج بقرار دولة مسؤولة تعرف قيمة المواطن وتحترم أمنه النفسي والجسدي.