حسين السمنودي
وسط ضجيج السياسة العالمية وتهافت الزعامات على قلوب الجماهير، خرج دونالد ترامب ذات يوم بتصريح لم يكن مجرد زلة لسان أو استعراضًا شعبويًا كما اعتاد، بل كان إعلانًا صريحًا لعقيدة شخصية خطيرة: "أنا المرسل من الله". تلك العبارة ليست مجرد كلمات عابرة، بل مفتاح لفهم عقلية لا ترى في السلطة تكليفًا ديمقراطيًا، بل اصطفاءً سماويًا يمنح صاحبها صلاحيات خارقة، ومكانة تتجاوز البشر والمؤسسات والدساتير.
في تاريخ الرؤساء الأمريكيين، لم يتجرأ أحد على المجاهرة بمثل هذا التصور الإلهي للذات، إلا أن ترامب، الذي كسر الكثير من قواعد اللعبة السياسية، لم يكتف بالخروج عن النص، بل كتب نصه الخاص. لم يسعَ فقط لأن يكون رئيسًا، بل أراد أن يُرى كمخلص، كقائد استثنائي بعثته "السماء" في لحظة فاصلة، ليقود شعبًا ضالًا نحو "النجاة".
المفارقة ليست في أن ترامب قال ما قاله، بل في أن هناك من صدقه، وآمن به، وسوّق له. جماهير ضخمة، غلبت عليها الروح الأيديولوجية، رسمت له صورة أقرب إلى أساطير الأنبياء. رأوه موسى العصر، أو داود المنتصر، أو المسيح العائد ليواجه "قوى الشر" التي تتآمر على أمريكا من الداخل والخارج. وهكذا، تحولت السياسة إلى دين، والزعيم إلى كائن فوق البشر، يتلقى "إلهامًا" لا يُرد ولا يُساءل.
والأخطر من التصريح ذاته، هو أن ترامب يؤمن بما يقول. تأمل خطاباته، حركات يديه، نظرته لنفسه، إحالاته المتكررة إلى "القدَر" و"العناية الإلهية"، كل ذلك يكشف عن قناعة راسخة: أنه ليس مجرد سياسي محنك أو قائد جماهيري، بل هو مُرسل بمهمة، يرى خصومه مجرد عقبات في طريقه، ويرى نفسه مكلفًا بتطهير الأرض منهم. في هذا السياق، تصبح العبارة المدوية "أنا المرسل من الله" ليست تعبيرًا عن إيمان، بل تصريحًا بمشروع يخلط بين السماء والأرض، بين السلطة والعقيدة، بين الدولة والدين.
ترامب لم يكن أول من استخدم الدين لأغراض سياسية، ولن يكون الأخير، لكن طريقته الوقحة والفجة جعلت الخطر أكثر وضوحًا. إنها ليست مجرد محاولة لكسب أصوات قاعدة إنجيلية محافظة، بل إعادة تشكيل للمشهد السياسي ككل، على أساس من الاستعلاء المقدس. فالزعيم الذي يرى نفسه مبعوثًا من الإله، لا يخضع لمساءلة، ولا يعترف بخصم، ولا يقبل النقد، لأن سلطته "مطلقة" مستمدة من أعلى.
هذا النمط من الزعامة ليس حكرًا على أمريكا، بل قد يطل برأسه في أي مكان بالعالم. فحين يُستخدم الدين كدرع للسلطة، يصبح الطغيان مقدسًا، وتُرتكب الجرائم باسم الفضيلة، وتُهدم الأوطان تحت راية "التكليف الإلهي". وبهذا المنطق، لا فرق بين دجال سياسي يرفع صوته في الغرب، وآخر يطل من الشرق، فكلاهما يستغل قداسة الإيمان لتمرير مشروع شخصي ملوث بالأطماع.
عبارة "أنا المرسل من الله" لا يجب أن تمر مرور الكرام، فهي ليست مجرد تصريح، بل إنذار من مستقبل قد يخلط فيه الناس بين الحاكم والنبي، وبين الدولة والمعبد، وبين القانون والوحي. حينها تسقط الديمقراطية، وتتحول الشعوب إلى رعايا، وتُعبد السلطة باسم الله.
وما ترامب إلا وجه فاقع لهذا الخطر.. خطر تديين السياسة، وتسييس الدين، حتى لا يبقى للناس من خيار إلا الإذعان أو الاتهام بالكفر.
إنه زمن الخلط القاتل بين الوهم واليقين، بين الزعامة والنبوة، بين الطاغية والنبي. ولعل في صدمة ترامب وعقيدته، جرس إنذار لمن أراد أن يفهم.. قبل أن يستيقظ على مذبح جديد يُبنى باسم السماء.