حسين السمنودي
تُعد الأرض المباركة جزءًا لا يتجزأ من كيان كل إنسان، فهي التي تحتضن أحلامه، وترويها بعرقه، وتحفظ بداخلها حكايات الأجداد، وتغرس في الأجيال القادمة دروس العزة والكرامة. وإذا كنا نتحدث عن الأرض المباركة، فإن مصر، أرض الكنانة، تأتي في صدارة هذه الأماكن التي حباها الله بالخيرات، ومنحها موقعًا استراتيجيًا فريدًا، وقداسة تاريخية وروحية لا تضاهى، لتكون عبر العصور مطمعًا للغزاة، وميدانًا لصراعات الأباطرة والمستعمرين، لكنها بقيت رغم كل ذلك شامخة، عصية على الانكسار، راسخة الأركان، بفضل أبنائها الذين قدموا التضحيات تلو التضحيات لحمايتها وصون كرامتها.
مصر هي الأرض التي باركها الله، ومر بها الأنبياء، وعاش على أرضها الأولياء، واحتضنت حضارات متعاقبة صنعت مجد البشرية، من الفراعنة حتى العصر الحديث. وتزداد القداسة عمقًا حين نتحدث عن سيناء، هذه البقعة الطاهرة التي شهدت تجلي الله سبحانه وتعالى على جبل الطور، وسمعت نداء الوحي، وعبرت فوق رمالها جحافل التاريخ من أنبياء وجنود، فصارت سيناء رمزًا خالدًا في ذاكرة الإنسانية.
لكن هذه البركة التي حظيت بها مصر، لم تجعلها في مأمن من الأطماع، بل صارت عبر العصور هدفًا دائمًا لقوى الشر التي أدركت أن من يمتلك مصر يمتلك مفاتيح العالم، فمنذ فجر التاريخ حاول الهكسوس احتلالها، وخاض المصريون ضدهم حروبًا طويلة انتهت بطردهم وتحرير الأرض، ثم تتابعت الحملات والغزوات بدءًا من الفرس والرومان، وصولًا إلى الصليبيين والمغول، وحتى الاستعمار العثماني، والفرنسي، ثم الإنجليزي.
ولم تكن مصر يومًا لقمة سائغة، بل كانت مقبرة لكل غازٍ، فقد سطرت جيوشها وأبناؤها أروع ملاحم الفداء، بداية من تحطيم جيوش الهكسوس، ومعركة قادش، ومرورًا بحروب التحرير ضد الاستعمار الإنجليزي، وأخيرًا وليس آخرًا ملحمة أكتوبر المجيدة، التي استعاد فيها المصريون أرضهم وكرامتهم من أيدى الصهاينة ، وأثبتوا للعالم أن هذه الأرض ليست مجرد رقعة جغرافية، بل قطعة من القلب والروح، لا يقبل المصريون المساس بها مهما كلفهم ذلك من دماء وأرواح.
وسيناء خاصة كانت وما تزال عنوانًا للتضحية، فقد روتها دماء الشهداء في معارك التحرير، وعاش أهلها صامدين في وجه الاحتلال، يدفعون فاتورة الكرامة بثمن غالٍ، ويقدمون أرواحهم رخيصة لأجل بقاء الأرض حرة نقية طاهرة.
ومع كل تحدٍ جديد، كانت مصر تثبت أنها قادرة على الصمود، فالأطماع لم تتوقف عند الغزاة القدامى، بل امتدت إلى الحاضر عبر محاولات السيطرة الاقتصادية، وافتعال الأزمات السياسية، وحروب الجيل الرابع والخامس التي تستهدف تفكيك الوطن وزرع الفتن، لكن وعي أبناء مصر ويقظة جيشها حفظا الوطن من السقوط، وأبقيا رايته خفاقة.
الحفاظ على الأرض المباركة واجب مقدس، يبدأ من حب الوطن، والإخلاص في العمل، والتضحية في سبيل حماية ترابه، والتمسك بقيم الشرف والعزة والكرامة. فمصر ليست مجرد وطن نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا، يسكن وجدان كل مصري، ويستحق أن نحافظ عليه بكل ما نملك من قوة وصدق ووفاء.
وهكذا تبقى مصر، أرض الكنانة وسيناء قلبها النابض، درة الأوطان، عصية على الأعداء، وصامدة في وجه الأطماع، لا تنكسر ولا تُفرّط في شبر من ترابها، لأن وراءها رجالًا ونساءً يسكن في قلوبهم معنى الأرض والعرض والكرامة، ويعلمون أن الأوطان لا تُشترى ولا تُباع، بل تُصان بالدماء، وتُخلّد في صفحات المجد.