حسين السمنودي
لا تزال مجزرة بحر البقر محفورة في ذاكرة المصريين والعرب كوصمة عار على جبين الاحتلال الصهيوني، وهي اليوم تعود لتطل من جديد في ملامح المأساة الدامية التي يعيشها أطفال غزة تحت القصف والركام، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأدوات أكثر تطورًا، لكن بالوحشية نفسها.
في صباح يوم الأربعاء 8 أبريل 1970، استيقظت قرية بحر البقر بمحافظة الشرقية على فاجعة لا ينساها الزمن، حين اخترقت طائرات فانتوم إسرائيلية سماء القرية، لتقصف مدرسة ابتدائية لا تحمل سوى صرخات التلاميذ ودفاترهم الملطخة بالحبر والحلم. خمس قنابل، وصاروخان، كانت كفيلة بتحويل المدرسة إلى كومة من الركام، ولتحمل معها أجساد ثلاثين طفلاً بريئًا، وتترك أكثر من خمسين آخرين مصابين بعاهات وجراح غائرة، جسديًا ونفسيًا.
لم تكن بحر البقر مجرد مدرسة، بل كانت رمزًا لبراءة تُذبح أمام صمت العالم. كان العدو يعرف جيدًا ما يفعل، ويقصد تمامًا إيصال رسالة مفادها: لا ملاذ آمن حتى لأطفال المدارس. هي السياسة ذاتها التي يمارسها اليوم على أطفال غزة، الذين ينامون ويستيقظون تحت دوي القنابل، في مشاهد تُبكي الحجر، وتكشف القناع عن وجه حضارة كاذبة صامتة أمام جرائم إبادة جماعية.
لم تختلف الحجج الصهيونية كثيرًا بين الماضي والحاضر؛ ففي بحر البقر زعمت إسرائيل أن المدرسة "هدف عسكري"، وفي غزة تدّعي أن المستشفيات والمدارس والملاجئ "مخازن سلاح" و"مراكز قيادة". هكذا يتجدد الكذب، ويتواصل الاستهداف، وتُستباح الطفولة في وضح النهار تحت سمع العالم وبصره.
لقد تحولت مجزرة بحر البقر إلى لحظة فارقة في الوعي المصري والعربي، لا لأنها كانت الأكثر دموية، بل لأنها كشفت للمرة الأولى أن العدو لا يفرق بين مقاتل وطفل، بين جبهة حرب وكرسي دراسة. وما أشبه مشاهد الأم التي كانت تبحث عن حقيبة طفلها بين الأنقاض في بحر البقر، بأمهات غزة وهنّ يحتضنّ فلذات أكبادهن تحت ركام المنازل المدمرة.
ورغم أن نصف قرن قد مر على مجزرة بحر البقر، إلا أن روحها لا تزال حاضرة، تطل علينا من نوافذ الألم القادمة من غزة، لتقول إن الاحتلال لم يتغير، وإن الضمير العالمي لم يستفق بعد، وإن دماء الأطفال لا تزال تُسال على مذبح المصالح السياسية وصمت المجتمع الدولي.
ولعلنا، في هذا التوقيت العصيب، بحاجة لاستدعاء الدرس من بحر البقر: أن الصمت لا يحمي، وأن الاحتلال لا يعرف إلا لغة المقاومة، وأن أرواح الأطفال حين تُزهق بلا ذنب، فإنها لا تذهب هباء، بل تصبح نارًا في قلوب الأحرار، وشعلة لا تنطفئ في دروب الكفاح.
ستظل مجزرة بحر البقر شاهدة على بشاعة المحتل، كما ستظل غزة اليوم شاهدًا حيًا على امتداد الجريمة، واتساع الجرح. وفي كل مرة يسقط فيها طفل شهيد، يولد ألف مقاوم، ويحيا فينا الأمل بالحرية.