حسين السمنودي
في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، كانت الأمة الإسلامية والعالم العربي يعيشان أحلك فتراتهما، حيث اجتاحت جحافل المغول البلاد كالإعصار المدمر، فلم تترك مدينة إلا وأحالتها إلى أطلال، ولم تترك حضارة إلا ومحقتها. سقطت بغداد عاصمة الخلافة العباسية عام 1258م تحت أقدام المغول، وقُتل الخليفة العباسي المستعصم بالله، وسادت الفوضى والدمار أرجاء المشرق الإسلامي.
وسط هذا المشهد المروع، لم يبقَ من العالم الإسلامي سوى مصر، التي وقفت وحدها كالصخرة الصامدة في وجه هذا الطوفان البشري القادم من الشرق. كان الوضع الداخلي في مصر مضطربًا، فقد شهدت صراعات على الحكم بعد وفاة السلطان أيبك، إلا أن السلطان المظفر سيف الدين قطز أدرك الخطر المحدق بالبلاد، فتولى الحكم عام 1259م وبدأ بإعداد مصر لمواجهة هذا الخطر الداهم.
أول ما قام به السلطان قطز هو إعادة تنظيم الدولة، فحشد الطاقات وأعاد الاستقرار الداخلي، ثم وجّه نداءً عامًا إلى أهل مصر، في القرى والنجوع والمدن، داعيًا الجميع للجهاد. كان خطابه قويًا مؤثرًا، حتى ظن الناس أن نبيًا قد بُعث من جديد، فدبّت الحماسة في قلوبهم، والتفّوا حول قائدهم في استعداد لمواجهة المغول الذين بدت قوتهم لا تُقهر.
تقدمت جحافل المغول بقيادة كتبغا، ظنًا منهم أنهم سيكررون ما فعلوه في بغداد والشام، لكن قطز كان قد أعد العدة جيدًا. اختار سهل عين جالوت في فلسطين ساحةً للمعركة، وهناك استخدم تكتيكات عسكرية بارعة، حيث بدأ بجيشه الصغير في مناوشة المغول ثم تظاهر بالانسحاب، مما دفع المغول للاندفاع بتهور في مطاردة الجيش المصري. في تلك اللحظة، ظهر الكمين الذي أعدّه قطز مسبقًا، فالتفّت القوات الإسلامية حول المغول، وبدأت معركة شرسة لم تشهد المنطقة مثلها.
وسط أجواء الحرب العنيفة، ومع تصاعد القتال، خلع السلطان قطز خوذته وصرخ بأعلى صوته: "وا إسلاماه!"، فكان لهذا النداء أثر السحر في جنوده، الذين قاتلوا بشجاعة أسطورية، حتى تمكنوا من دحر المغول وقتل قائدهم كتبغا. ولأول مرة في تاريخهم، تجرع المغول مرارة الهزيمة، وانكسر طوفانهم الجارف على صخرة الصمود المصري.
لم تكن معركة عين جالوت مجرد انتصار عسكري، بل كانت نقطة تحول في تاريخ العالم الإسلامي، إذ أوقفت زحف المغول نحو الغرب، وحمت الحضارة الإسلامية من الدمار الكامل، وأثبتت أن الإرادة والعزيمة قادرتان على دحر أعتى الجيوش، مهما بلغ حجمها وقوتها.
وهكذا، عندما انهارت بقية الأوطان الإسلامية، كانت مصر هي القلعة الأخيرة التي استعادت تماسكها، وأعادت الأمل للأمة بأسرها. كان قطز رمزًا للقائد الذي رفض الخضوع للواقع المرير، وأعاد بعث روح الجهاد في النفوس، فصنع بجيشه الصغير ملحمة ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ إلى الأبد.
وما أشبه الليلة بالبارحة.
(وتلك الٱيام نداولها بين الناس )