recent
أخبار ساخنة

الطموحات اليهودية في الجزيرة العربية بين الماضي والحاضر: أطماع تاريخية ورهانات سياسية/شيفاتايمز

الطموحات اليهودية في الجزيرة العربية بين الماضي والحاضر: أطماع تاريخية ورهانات سياسية

حسين السمنودي 

منذ فجر التاريخ، شكلت الجزيرة العربية قلب الصراعات بين القوى المتنافسة، وكان لليهود وجود قديم فيها، خاصة في الحجاز، حيث عاشوا في يثرب (المدينة المنورة) وخيبر وتيماء. هذا الوجود لم يكن مجرد تواجد سكاني، بل حمل أبعادًا اقتصادية وسياسية جعلته عاملاً مؤثراً في توازنات القوى داخل المنطقة. ومع بزوغ الإسلام، دخل اليهود في صراع مباشر مع المسلمين، بلغ ذروته في العهد النبوي، حين انتهى بهم الأمر إلى الخروج من الجزيرة العربية بعد أن تآمروا ضد الدولة الإسلامية الوليدة.

لم تكن هذه نهاية الطموحات اليهودية، فالتاريخ يكشف أنهم لم ينسوا وجودهم القديم في الجزيرة العربية، بل ظلوا يستحضرونه بين الحين والآخر، إما في سياق ديني يوظف التوراة والتلمود، أو في سياق سياسي يهدف إلى التوسع والاستحواذ على مناطق ذات أهمية استراتيجية. ومع قيام دولة إسرائيل عام 1948، وانطلاق المشروع الصهيوني بأبعاده التوسعية، بدأت تظهر بين الحين والآخر أطروحات حول "حقوق اليهود" في الجزيرة العربية، تمامًا كما ادّعوا أحقيتهم بفلسطين استنادًا إلى مرويات تاريخية ودينية.

الصراع بين العرب واليهود لم يكن وليد العصر الحديث، بل هو امتداد لصراعات قديمة شهدتها مناطق مختلفة من العالم العربي. فقد كان اليهود عبر التاريخ يسعون إلى تحقيق النفوذ والهيمنة، سواء من خلال التجارة أو العلاقات السياسية، وغالبًا ما تحالفوا مع القوى الخارجية ضد العرب والمسلمين، كما حدث في الأندلس، حينما لعبوا دورًا في سقوط الحكم الإسلامي، وكما حدث خلال الحملات الصليبية، حيث وفروا دعمًا لوجستيًا للصليبيين مقابل امتيازات اقتصادية وسياسية.

في العصر الحديث، ومع اتساع النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، بدأت إسرائيل توظف المسألة اليهودية في الجزيرة العربية بأساليب متعددة. فمن جهة، تسعى إلى إعادة إحياء التراث اليهودي في الحجاز وتيماء وخيبر، عبر دراسات تاريخية وأثرية تحاول تقديم رواية جديدة عن الوجود اليهودي في تلك المناطق، ومن جهة أخرى، تعمل على إدخال هذا الملف في سياق سياسي، بحيث يصبح ورقة ضغط يمكن استخدامها عند الحاجة. في هذا السياق، ظهرت محاولات لترويج فكرة أن اليهود الذين عاشوا في الجزيرة العربية لهم "حقوق تاريخية" يجب الاعتراف بها، بل إن بعض الأصوات داخل إسرائيل بدأت تلمح إلى ضرورة إعادة النظر في أوضاع اليهود الذين طُردوا من الدول العربية، وربط ذلك بمطالبات تعويضية أو حتى مطالبات بأراضٍ وأملاك.

إحدى الأدوات التي تعتمد عليها إسرائيل في هذا المخطط هي القوة الناعمة، حيث تستخدم السياحة والاقتصاد والثقافة لإعادة ربط اليهود بأماكنهم القديمة في الجزيرة العربية. فقد بدأت تظهر دعوات لليهود حول العالم لزيارة خيبر والمدينة المنورة وغيرها من المناطق التي شهدت وجودًا يهوديًا قديمًا، في محاولة لخلق ارتباط وجداني بهذه الأماكن، تمامًا كما فعلت في فلسطين قبل احتلالها، حيث شجعت الرحلات اليهودية إلى الأماكن التي تعتبرها مقدسة. وبالتوازي مع ذلك، تسعى إسرائيل إلى اختراق المجتمعات العربية من خلال التعاون الاقتصادي، الذي قد يكون مقدمة لمطالبات سياسية مستقبلية.

أما على المستوى السياسي، فإن إسرائيل تدرك أن طرح ملف "يهود الجزيرة العربية" في الوقت الراهن قد يكون غير مناسب، لكنها تعمل على تأجيله إلى حين تهيئة الأوضاع الدولية والإقليمية. فكما تمكنت من فرض واقع جديد في القدس والجولان، فإنها قد تسعى لاحقًا إلى فرض واقع مشابه في الحجاز، مستغلة التغيرات السياسية والاقتصادية التي تمر بها المنطقة.

ما يجعل هذه المخططات أكثر خطورة هو أن إسرائيل لا تعتمد فقط على القوة العسكرية، بل تستخدم أيضًا أساليب أكثر تعقيدًا، مثل التلاعب بالرأي العام، واختراق المؤسسات الأكاديمية والثقافية، والعمل عبر منظمات دولية للترويج لروايتها التاريخية. وإذا كان العرب قد واجهوا المشروع الصهيوني في فلسطين لعقود، فإنهم قد يجدون أنفسهم أمام معركة جديدة، حيث تحاول إسرائيل إعادة إنتاج مشروعها التوسعي في أماكن جديدة، مستخدمة الأساليب نفسها التي استخدمتها في فلسطين: التأصيل الديني، والاستيطان الناعم، واستغلال الانقسامات الداخلية في المجتمعات العربية.

إن استيعاب أبعاد هذا المخطط يتطلب وعيًا سياسيًا عميقًا، وإدراكًا لحقيقة أن المشروع الصهيوني لا يقتصر على فلسطين وحدها، بل يحمل في طياته رؤية أوسع للهيمنة الإقليمية. وإذا كان العرب قد واجهوا هذا المشروع عسكريًا في مراحل مختلفة من التاريخ، فإن التحدي اليوم يكمن في المواجهة الفكرية والثقافية، وفضح الأهداف الحقيقية لهذا المخطط قبل أن يتحول إلى أمر واقع. فمن يراقب التاريخ يدرك أن الأطماع اليهودية لا تتوقف عند حد معين، بل تتوسع كلما وجدت الفرصة سانحة، وهذا ما يجعل من الضروري أن يكون التصدي لهذه المخططات جزءًا من استراتيجية عربية شاملة، لا تقتصر على الدفاع عن فلسطين، بل تمتد إلى حماية كل شبر من الأرض العربية من الاختراق الصهيوني بأشكاله المختلفة.
google-playkhamsatmostaqltradent