د/حسين السمنودي
تعمير سيناء ليس مجرد مشروع تنموي، بل هو قضية مصيرية تتعلق بالأمن القومي المصري ومستقبل التنمية المستدامة في البلاد. فهذه البقعة الغالية من أرض مصر تحمل بين جنباتها ثروات لا تُحصى، سواء كانت في الزراعة أو التعدين أو السياحة أو المصايد الطبيعية، فضلًا عن موقعها الاستراتيجي الذي يجعلها بوابة مصر الشرقية. ومع ذلك، فإن الكثافة السكانية المنخفضة تظل التحدي الأكبر أمام استغلال هذه الموارد، وهو ما يجعل التوطين ضرورة ملحة وليس خيارًا يمكن تأجيله.
ومن الحقائق التي لا يمكن إغفالها أن العدو عبر التاريخ كان يخشى المناطق السكنية المأهولة بالسكان، فهو يجيد الحرب في المساحات الخالية والصحارى المفتوحة، لكنه يتعثر كلما واجه مجتمعات مستقرة ومترابطة. ووجود تجمعات سكانية كبيرة في سيناء يعني خلق درع بشري طبيعي يحول دون أي محاولات للاختراق أو زعزعة الاستقرار. فالمناطق المأهولة تُشكل بيئة صعبة على أي قوة معادية، حيث يصبح من المستحيل تنفيذ مخططات تستهدف الأمن والاستقرار دون أن تواجه مقاومة شعبية قبل أن تصل إلى القوات المسلحة.
ورغم الجهود الضخمة التي بذلتها الدولة في السنوات الأخيرة لتمهيد الطرق وإنشاء الكباري والأنفاق التي تربط سيناء ببقية المحافظات، إلا أن هناك قيودًا أمنية مشددة على التنقل والدخول إليها، وهو أمر يمكن تفهمه في إطار مواجهة التهديدات الأمنية، لكنه في الوقت نفسه يجعل عملية التوطين أكثر تعقيدًا. إن تأمين سيناء لا يعني عزلها، بل يتطلب التوازن بين الإجراءات الأمنية وبين تشجيع المواطنين على الانتقال إليها والاستقرار بها. فلا يمكن أن يتحقق تعمير حقيقي طالما أن الوصول إلى سيناء يتطلب إجراءات طويلة ومعقدة، تجعل الكثيرين يعزفون عن فكرة الانتقال والعيش فيها.
إن حل هذه المعضلة يكمن في تسهيل إجراءات الإقامة والتنقل للمواطنين الشرفاء، مع استمرار التشديد الأمني على العناصر المشبوهة فقط. فالتوسع في إصدار تصاريح الإقامة، وتقديم تسهيلات للشباب الراغب في العمل هناك، ومنح حوافز استثمارية لمن يود إنشاء مشروعات، كلها خطوات ضرورية لضمان نجاح خطة التوطين. كما أن توفير البنية التحتية المتكاملة، من مدارس ومستشفيات وأسواق وفرص عمل حقيقية، سيجعل العيش في سيناء خيارًا جاذبًا وليس مجرد حلم بعيد المنال.
إضافةً إلى ذلك، فإن دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، خاصة في مجالات الزراعة والصناعات الحرفية والتعدين، سيخلق بيئة اقتصادية حيوية تُشجع المزيد من المواطنين على الانتقال والاستقرار في سيناء. ويجب ألا نغفل دور الإعلام في تغيير الصورة الذهنية لدى المصريين عن سيناء، فالكثيرون لا يزالون يرونها منطقة عمليات عسكرية أكثر منها منطقة صالحة للحياة، وهذه الصورة تحتاج إلى تصحيح عبر حملات توعوية تُبرز الفرص الهائلة التي توفرها سيناء لكل من يقرر الاستقرار فيها.
إن تعمير سيناء ليس مجرد قرار اقتصادي، بل هو واجب وطني يفرضه الواقع الجغرافي والسياسي لمصر. فكل منزل يُبنى في سيناء، وكل أسرة تستقر هناك، هي خطوة إضافية في حماية هذه الأرض المقدسة من أي تهديد مستقبلي. إن الأمن الحقيقي لا يتحقق فقط بالدوريات العسكرية ونقاط التفتيش، بل يتحقق عندما تصبح سيناء مليئة بالحياة، بالمزارع والمصانع والمدارس والمستشفيات، وعندما يصبح كل شبر فيها مأهولًا بالسكان الذين يُشكلون خط الدفاع الأول عنها. سيناء لم تُخلق لتظل أرضًا خاوية، بل لتكون عامرة بأبنائها الذين يصنعون مستقبل مصر ويحرسونها بأرواحهم قبل سلاحهم.