خصومة الأرحام.. الكسبان فيها خسران
بقلم /أشــــــرف عبدالعال
في مجتمعاتنا العربية، تظل الروابط العائلية حجر الأساس في بناء العلاقات الإنسانية، حيث تُعتبر صلة الرحم من أسمى القيم التي تحافظ على تماسك الأسرة والمجتمع. ومع ذلك، نجد أن الخلافات والخصومات بين الأقارب أصبحت ظاهرة متكررة تهدد هذا التماسك، فيتحول الحب والمودة إلى جفاء وقطيعة، ويتحول الأقارب من سندٍ لبعضهم البعض إلى أعداء لا يجمعهم سوى الذكريات. وفي خضم هذه النزاعات، يعتقد البعض أنهم انتصروا حين يفرضون قطيعة على ذويهم أو يحصلون على مكاسب مادية أو معنوية، لكن الحقيقة التي لا يدركونها أن الكسبان في خصومة الأرحام هو في الواقع أكبر الخاسرين.
الخصومة بين الأرحام لا تأتي من فراغ، بل غالبًا ما تكون نتيجة تراكمات لمشكلات صغيرة لم يتم حلها في وقتها، فتتحول مع الأيام إلى جدران عالية من الكراهية والجفاء. أحيانًا يكون السبب ماليًا، كما في نزاعات الميراث أو الخلافات حول الحقوق، وأحيانًا أخرى يكون ناتجًا عن سوء تفاهم، حيث تُفسَّر الكلمات أو التصرفات بطريقة خاطئة تؤدي إلى القطيعة. وربما تلعب الغيرة والحسد دورًا في بعض الحالات، إذ ينظر أحد الأقارب إلى نجاح الآخر بعين الحقد بدلًا من الفخر، فتشتعل نار العداوة في القلوب. ولا يمكن إنكار دور الأطراف الخارجية التي تتدخل في الخلافات العائلية، سواء بدافع الإصلاح لكنها تزيد الأمر سوءًا، أو من باب التحريض وإذكاء الفتنة.
الذي يظن أنه قد ربح شيئًا من خصومة الأرحام، سواء كان انتصارًا في موقف أو رد اعتبار، سرعان ما يكتشف أن ما كسبه لا يساوي شيئًا أمام ما خسره. فهو أولًا يخسر دفء العائلة، ذلك الحضن الذي يمنحه القوة في مواجهة الحياة. يخسر السند الحقيقي الذي قد يحتاجه في لحظة ضعف أو أزمة مفاجئة. والأهم من ذلك، يخسر راحة البال، لأن الخصومة تخلق توترًا داخليًا يجعل الإنسان يعيش في دوامة من المشاعر السلبية، بينما التسامح يمنحه راحة نفسية لا تقدر بثمن. وليس الأمر مقتصرًا على الجانب العاطفي فقط، بل إن القطيعة قد تكون سببًا في زوال البركة من حياة الإنسان، فقد جاء في الحديث الشريف أن صلة الرحم تزيد في العمر وتبارك في الرزق، فكيف لمن يقطع رحمه أن يطلب التوفيق والبركة؟
التسامح هو الحل الوحيد الذي يمكنه كسر دائرة الخصومة. قد يكون من الصعب تجاوز الألم في بعض الأحيان، لكن المبادرة بالصلح والتنازل عن العناد قد تكون الخطوة التي تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. حتى لو كان الطرف الآخر مخطئًا، فإن مد يد الصفح هو دليل على القوة وليس الضعف، فالعلاقات الأسرية أغلى من أي مكسب مادي أو انتصار وهمي. والمبادرة بإصلاح ذات البين ليست فقط مسؤولية فردية، بل هي واجب جماعي، فكل شخص في العائلة يمكنه أن يكون حلقة وصل لإعادة المياه إلى مجاريها، سواء بكلمة طيبة أو وساطة حكيمة.
الحياة أقصر من أن تُهدر في الخصومات، والإنسان لا يدرك قيمة الأشخاص في حياته إلا حين يفقدهم. لذلك، لا ينبغي أن نسمح للغضب أو العناد بأن يكونا سببًا في خسارة أقرب الناس إلينا. فمن يدرك قيمة العائلة يعلم أن الكسب الحقيقي ليس في الانتصار في الخصومة، بل في الحفاظ على الأرحام، لأن الكسبان فيها خسران، والخاسر فيها قد يكون قد خسر كل شيء دون أن يشعر.