الصعايدة .. معدن الرجال الذي لا يصدأ
حسين السمنودي
الرجولة ليست مجرد كلمة تُقال، ولا مظاهر خادعة يتفاخر بها البعض، لكنها مواقف تثبت معادن الرجال. في الصعيد، الرجولة ليست اختيارًا، بل هي طبيعة متأصلة في النفوس، تنمو مع الإنسان منذ الصغر، وتتشكل في أفعاله، وتنعكس في قراراته، فتجده يحترم الكبير، ويحنو على الصغير، ولا يخذل من استنجد به، ولا يظلم من خالفه.
في الصعيد، الكلمة عقد، والوعد دين، والرجل يُعرف بمروءته قبل أن يُعرف باسمه. فمنذ الصغر، يتعلم الطفل أن يكون مسؤولًا، أن يحفظ العهد، وأن يكون درعًا لأهله، وسندًا لجيرانه، وحارسًا لشرفه. لا يرفع يده على امرأة، ولا يترك محتاجًا دون عون، ولا يتأخر عن نصرة الحق.
ليس غريبًا أن تجد الصعيدي يتباهى بأبيه وجده، ليس من باب الغرور، ولكن لأنهم غرسوا فيه القيم النبيلة التي تجعله يقف شامخًا بين الرجال. وكما في الحوار الدارج بين اثنين يتفاخران بآبائهما، الأول يقول: "أبوي كان راجل عاقل، يحل المشاكل ويمشي فالصلح والمصالحة"، فيرد الثاني: "وأنا أبوي أحسن من أبويك، عشان كان بيحل المشاكل قبل ما تبقى مشاكل!"، فهذا ليس مجرد تفاخر، بل هو تجسيد لمفهوم الرجولة الحقيقية، التي تعني الحكمة قبل التهور، والتريث قبل الاندفاع، وإصلاح الأمور قبل أن تتفاقم.
الصعيدي رجل يعرف قيمة الشرف، فلا يخون، ولا يبيع المبادئ، ولا يتلون حسب الظروف. فإن وعد أوفى، وإن تحدث صدق، وإن خاصم كان كريمًا حتى في خصومته. لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يحيد عن المروءة مهما كانت المغريات. فالرجولة عنده ليست في قسوة القلب أو التكبر على الناس، بل في الحكمة، والعدل، والقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب.
لكن اليوم، ومع تطور الزمن، اختلطت الأمور، وظهرت أنصاف الرجال، الذين يتفاخرون بالكلام ولا يفعلون، ويهربون من المسؤوليات بدلًا من مواجهتها، ويزعمون القوة وهم أضعف من أن يواجهوا أنفسهم. هؤلاء من يشوهون معنى الرجولة، فيجعلونها صخبًا فارغًا، واستعراضًا أجوف، دون أن يدركوا أن الرجل يُعرف بمواقفه، لا بصوته العالي ولا بمظهره.
الرجولة الحقيقية ليست في البطش، ولا في السيطرة، بل في الحكمة والكرم والشهامة. والرجل الحقيقي ليس من يفرض نفسه بالقوة، بل من تفرضه أفعاله بين الناس. يقول المثل الصعيدي: "الراجل ما يقولش أنا، المواقف هي اللي تقول هو مين!"، وهذا هو المقياس الحقيقي للرجولة.
ربنا يكثر من الرجال الجدعان، الذين عقلهم ميزان، ويبارك فيهم، ويبقى معدنهم أصيلًا لا يصدأ، ويبعد عنا أنصاف الرجال، الذين يتشبهون بالرجال وهم لا يملكون من الرجولة شيئًا!