د/حسين السمنودي
يأتي رمضان ليكون فرصة عظيمة لكل مسلم يسعى للارتقاء بنفسه روحانيًا، وهو موسم لا يشبه غيره من مواسم العام، إذ تتضاعف فيه الحسنات وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، كما قال النبي ﷺ: "إذا جاء رمضان فُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ، وصُفِّدَتْ الشياطينُ" (متفق عليه). ومع ذلك، نجد أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين الناس في الاستفادة من هذا الشهر، فمنهم من يغتنمه ليكون سببًا في تغير حياته، ومنهم من يضيع أيامه ولياليه فيما لا يفيد، وذلك يعود إلى غياب الهدف وضبابية الرؤية حول حقيقة رمضان.
لقد كان السلف الصالح يدركون قيمة رمضان ويحددون له هدفًا واضحًا، فكانوا يستعدون له قبل قدومه، كما قال معلى بن الفضل: "كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم". وهذا يظهر مدى وعيهم بأهمية هذا الشهر وضرورة استغلاله بأفضل صورة، فهل نحن مثلهم؟ أم أننا نتعامل مع رمضان كأنه شهر عادي يمر كغيره دون تخطيط؟
القرآن الكريم يؤكد على ضرورة تحديد الهدف والسعي له بجد، حيث يقول الله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى" (النجم: 39-40)، فمن لم يكن له هدف في رمضان، سيجد نفسه غارقًا في الانشغال بأمور جانبية تجعله يخرج من الشهر دون تحقيق أي أثر حقيقي في نفسه. ولهذا، كان الصحابة والتابعون يضعون لأنفسهم أهدافًا واضحة، فمنهم من كان يركز على ختم القرآن مرات عديدة، ومنهم من كان يتصدق بأعظم ما يستطيع، ومنهم من كان يحرص على إصلاح قلبه وتجديد إيمانه.
إن الإنسان إذا لم يكن له هدف واضح في رمضان، أصبح عرضة للانشغال بالمشتتات الكثيرة التي تملأ هذا العصر، فهناك البرامج والمسلسلات التي تُعد خصيصًا لجذب الناس في هذا الشهر، وهناك وسائل التواصل الاجتماعي التي تسرق الأوقات دون أن يشعر الإنسان، بل إن البعض يقضي ساعات طويلة في متابعة ما لا فائدة منه، بينما يمكنه استغلال هذه الأوقات في العبادة وذكر الله. وقد قال النبي ﷺ: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ" (البخاري).
من أعظم الأهداف التي يجب أن يضعها المسلم في رمضان أن يكون شهرًا لتطهير القلب وتزكية النفس، فالقرآن الكريم نزل في هذا الشهر ليكون هداية ورحمة للعالمين، كما قال الله تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان" (البقرة: 185). فكيف لا يكون هدف المسلم في رمضان هو الارتباط بالقرآن، تلاوةً وتدبرًا وعملاً؟ إن النبي ﷺ كان يضاعف اجتهاده في رمضان، وكان جبريل عليه السلام يراجعه القرآن في هذا الشهر، كما جاء في الحديث: "كان رسول الله ﷺ أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان جبريلُ يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضانَ فيُدارسُه القرآنَ" (البخاري ومسلم).
من الأهداف العظيمة التي يجب أن يحرص عليها المسلم في رمضان كذلك هو الاجتهاد في الصلاة، فقيام الليل من أعظم العبادات التي تقوي العلاقة بالله وتغسل القلب من شوائب الذنوب، وقد قال النبي ﷺ: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" (البخاري ومسلم). وإن الإنسان إذا ذاق حلاوة القيام، فلن يفرط فيه أبدًا، ولذلك كان الصحابة يحرصون على إطالة القيام والبكاء في السجود، طمعًا في رضا الله ومغفرته.
إن الصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل هو مدرسة تهذيب للنفس والجوارح، وقد قال النبي ﷺ: "ليس الصيامُ من الأكلِ والشربِ، إنما الصيامُ من اللغوِ والرَّفَثِ، فإن سابَّكَ أحدٌ أو جهلَ عليكَ فقلْ إني صائمٌ، إني صائمٌ" (ابن خزيمة والحاكم). فالذي يصوم ولا يتحكم في لسانه وسلوكياته، لا يدرك جوهر الصيام الحقيقي، وقد قال النبي ﷺ محذرًا: "ربَّ صائمٍ ليس له من صيامِه إلا الجوعُ، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامِه إلا السهرُ" (ابن ماجه).
لا ينبغي للمسلم أن يضيع فرصة العشر الأواخر، ففيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي أخبر النبي ﷺ أن من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. وقد كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر الأواخر، شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله بالعبادة والذكر. فكيف يفرط المسلم في هذه الليالي العظيمة وينشغل بأمور لا تغني ولا تسمن من جوع؟
إن من يحدد هدفه في رمضان، ويضع له خطة واضحة، ويجاهد نفسه، سيفوز بالبركة والمغفرة، أما من ترك نفسه للمشتتات، فسيجد نفسه في نهاية الشهر لم يحقق شيئًا. قال الله تعالى: "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" (المطففين: 26)، فمن كان يريد الأجر العظيم، فليجعل رمضان بداية جديدة لحياته، وليحذر من الفيلة التي تسرق أجمل أوقاته دون أن يشعر.
نسأل الله أن يجعلنا من الفائزين في رمضان، وأن يرزقنا القبول والمغفرة، وأن يوفقنا لاستغلال أيامه ولياليه بأفضل صورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.