"غزة تحتضر بردًا وجوعًا… وصوت الإنسانية صامت"
حسين السمنودي
في بقعة صغيرة على خريطة العالم، تتجلى أقسى صور المأساة الإنسانية في مشهد يعجز عن وصفه أعظم الكُتّاب والشعراء. إنها غزة، المدينة التي تحوّلت إلى لوحة حزينة مرسومة بألوان الألم والجوع والبرد والخذلان. هنا، في هذا المكان المحاصر، يعيش أكثر من مليوني إنسان بين ركام المنازل المدمرة وتحت سماء ملبدة بالقسوة، بينما يقف العالم متفرجًا بصمت مخزٍ.
يأتي الشتاء هذا العام، وكأنه فصل إضافي من فصول الحرب المستمرة على غزة. البرد القارس يُضاعف المعاناة التي لم تعد تُحتمل، وأجساد الأطفال الصغيرة ترتعش تحت أغطية بالية لا تكاد تحميهم من نسمات الهواء الباردة. كثيرون يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يحاولون عبثًا الحصول على بعض الدفء من نار بسيطة أشعلوها ببقايا الحطام والخشب المتناثر من منازلهم المدمرة.
في غزة، كل شيء ينهار أمام العجز وقلة الحيلة. المستشفيات لا تستطيع تقديم الرعاية الصحية الكافية مع نقص الوقود والأدوية، والمخابز مغلقة بسبب انقطاع الإمدادات، والأسواق خاوية إلا من الصمت القاتل. أطفال غزة يجلسون بجوار أمهاتهم، ينظرون إلى السماء بأعين ذابلة وجسد هزيل، يسألون أسئلة لا تملك أمهاتهم إجابات لها: "متى سنأكل؟ متى سنشعر بالدفء؟ متى سنعيش مثل بقية أطفال العالم؟".
الجوع هنا ليس مجرد ألم عابر، بل هو وحش يُطارد الجميع بلا رحمة. قطعة خبز أصبحت حلمًا بعيد المنال، ووجبة ساخنة رفاهية لم يعد أحد في غزة يتخيلها. الحصار أغلق كل أبواب الحياة، والمساعدات التي تصل لا تكفي لسد جوع طفل واحد من بين آلاف الأطفال الذين يبكون كل ليلة من الألم.
في ليالي الشتاء الطويلة، تتسرب البرودة إلى العظام، ولا يوجد سوى الصمت يملأ الأرجاء. أم تجلس في ركن منزلها المتهدم، تحاول أن تلف أطفالها بما تيسر من ثياب قديمة، وتهمس في آذانهم: "ناموا يا أحبائي، غدًا سيكون أفضل". لكن الغد يأتي مشحونًا بمزيد من الألم والجوع والبرد.
غزة ليست مجرد قضية سياسية أو خلاف على حدود، إنها مأساة إنسانية بكل المقاييس. القلوب هنا باتت منهكة، والأرواح أُرهقت من كثرة الصدمات. لا أحد يستطيع أن يشرح كيف يستطيع طفل صغير أن يتحمل هذا الكم الهائل من المعاناة، ولا أحد يستطيع أن يبرر كيف يصمد الكبار أمام هذا الجحيم المستمر دون أن تنكسر أرواحهم.
الشتاء في غزة ليس مثل أي شتاء آخر. البرد هنا يقتل ببطء، والجوع يستنزف ما تبقى من طاقة في الأجساد المنهكة. المرض يتفشى، والأدوية مفقودة، والأمل يتلاشى تدريجيًا مع كل يوم يمر دون تدخل حقيقي ينقذ هذه الأرواح البريئة.
أين العالم؟ أين الضمير الإنساني؟ لماذا تحوّلت مأساة غزة إلى مجرد أخبار عابرة في نشرات الأخبار؟ لماذا أصبح الألم هنا مجرد أرقام وإحصائيات تُقرأ ببرود ثم تُنسى؟ أين القادة، أين المؤسسات الدولية، أين المنظمات الإنسانية من هذا الألم الممتد؟
في غزة، تُكتب قصص من الصمود كل يوم. رغم البرد والجوع والقصف، تجد أطفالًا يبتسمون، تجد أمًا تُخبئ دموعها وتدعو الله بصوت خافت، تجد رجالًا يبنون ما دمرته الحرب بقطع الحجارة الصغيرة، كل هذا لأنهم ببساطة لا يملكون خيارًا آخر سوى الصمود.
لكن إلى متى سيبقى هذا الصمود وحده السلاح الأخير؟ إلى متى سيظل العالم يتجاهل صرخات الأمهات ودموع الأطفال وجوع الشيوخ وبرد العائلات؟ إن مأساة غزة ليست مجرد حدث عابر، بل هي وصمة عار على جبين الإنسانية بأكملها.
إن كان هناك ما تبقى من إنسانية في هذا العالم، فعلى الجميع أن يتحرك الآن قبل أن تتحول غزة إلى مقبرة مفتوحة للأحلام والآمال والإنسانية نفسها. البرد يشتد، والجوع يتفاقم، والمأساة تتوسع… وغزة لا تزال تصرخ، ولكن يبدو أن صوتها لا يصل إلا إلى قلوب من أرادوا أن يسمعوا.