السجن الحقيقي: قيود العقل قبل قيود الجدران
حسين السمنودي
في حياة الإنسان، يمكن أن تكون القيود المادية والمعنوية أكثر فتكًا من أسوار السجون الحديدية. فالسجن الحقيقي ليس دائمًا مكانًا محكم الإغلاق، تحيط به الحراس والجدران العالية، بل قد يكون عقلًا مقيدًا بأفكار مظلمة، وأوهام تشل قدرته على الإبداع والحركة.
تُعرف السجون المادية بأنها أماكن يُحجز فيها الأفراد كعقوبة على أفعالهم غير القانونية. لكن هناك نوعًا آخر من السجون أكثر قسوة وأقل وضوحًا، وهو السجن الفكري. هذا النوع يُكبل الإنسان من الداخل، يمنعه من التفكير بحرية أو تحقيق أحلامه، ويجعله أسيرًا للخوف، والتردد، والشكوك. كم من أشخاص عاشوا أحرارًا بأجسادهم ولكنهم ظلوا سجناء داخل أفكارهم؟ وكم من سجناء خلف القضبان كانت عقولهم تحلق في سماء الحرية، يبدعون، ويكتبون، ويغيرون العالم بأفكارهم؟
وتتنوع مصادر السجن العقلي، فمنها التعليم الموجه والجامد الذي يفرض على العقول نمطًا واحدًا للتفكير، مما يجعل العقل حبيسًا داخل قوالب جاهزة. بالإضافة إلى المعتقدات الخاطئة التي قد تجعل الإنسان مقيدًا بخوفه من التغيير، والخوف من الفشل الذي يمنع الإنسان من اتخاذ خطوات جريئة، إلى جانب الإعلام المضلل الذي يسيطر على العقول من خلال نشر الأكاذيب والخوف.
والتاريخ مليء بنماذج لأشخاص تحدوا قيود السجن المادي بعقولهم الحرة. فنيلسون مانديلا، الذي لم تستطع سنوات السجن الطويلة كسر إرادته أو تقويض أفكاره. ومارتن لوثر كينغ، الذي قاد ثورة فكرية من أجل المساواة رغم ما تعرض له من اضطهاد. الشيخ أحمد ياسين، الذي ظل رمزًا للمقاومة رغم الشلل وأسر السجون. هؤلاء وغيرهم يُثبتون أن العقل الحر أقوى من أي قيد مادي.
والتحرر من السجن الفكري يبدأ من التعليم المستمر والقراءة، فالمعرفة تضيء العقول وتحررها. التفكير النقدي يعد أداة أساسية لكسر القيود، حيث يُمكن الإنسان من تحليل المعلومات بدلًا من قبولها كحقائق مُطلقة. الانفتاح على الثقافات والأفكار المختلفة يُوسع الأفق ويُحرر الإنسان من الجمود الفكري، بينما يمنح التعبير عن الذات فرصة للعقل كي ينطلق بعيدًا عن الخوف والتردد.
والمجتمع يلعب دورًا كبيرًا في تحرير العقول من قيودها. المؤسسات التعليمية يجب أن تتبنى مناهج تدعو للتفكير الحر، ووسائل الإعلام مطالبة بأن تكون منبرًا للحقيقة لا أداة للتضليل. يجب على الجميع العمل على نشر ثقافة تقبل الآخر، وتوسيع دائرة الحوار والتفاهم.
إن أقسى أنواع السجن هو ذلك الذي نصنعه لأنفسنا داخل عقولنا. الجدران قد تُهدم، والأبواب قد تُفتح، لكن العقل المقيد بأفكار مظلمة يبقى في ظلامه إلى أن يتخذ صاحبه قرار التحرر. فلنحرر أفكارنا، ولنسمح لعقولنا أن تحلق بعيدًا عن قيود الخوف والتردد، لأن الحرية تبدأ من الداخل، ومن العقل أولًا.