بقلم / حسين السمنودي
في مشهد يعيد إلى الأذهان أحداثاً مؤلمة من التاريخ الإنساني، تشهد جباليا، خان يونس، ورفح في قطاع غزة عمليات عسكرية هي أقرب إلى المجازر منها إلى العمليات العسكرية الموجهة ضد مقاتلين. باتت هذه المناطق الساحلية الصغيرة ساحة لاستعراض القوة، حيث يتعرض المدنيون الأبرياء لهجمات مروعة طالت منازلهم، المدارس، الأسواق، والمساجد دون تمييز بين الأطفال، النساء، والشيوخ. يومًا بعد يوم، تمتد يد الموت لتمزق أواصر الحياة، تاركة خلفها صوراً تهز الضمائر.
المشهد في جباليا: أطفال تحت الأنقاض وشوارع مليئة بالدماء
في جباليا، شمال القطاع، تحولت حياة الأهالي إلى كابوس لا ينتهي، إذ تتواصل الهجمات الصاروخية بلا هوادة، مخلفة وراءها بيوتًا محطمة وأسرًا مدمرة. كانت هذه المنطقة مكتظةً بالسكان، يعيش فيها آلاف الأطفال الذين لا يعرفون سوى اللعب والمدرسة. لكن، مع اشتداد القصف، تحولت شوارع جباليا إلى أماكن موت وترويع. شهدت الأيام الماضية استهدافاً متعمداً لمنازل المدنيين، ما أدى إلى انهيار المباني فوق رؤوس قاطنيها، حيث تكدست الجثث بين الركام، ومعها لعب الأطفال وكتبهم المدرسية، في مشهد يجسد قسوة الحرب على الإنسانية.
خان يونس: الفقد المتكرر وجحيم الحرب
تتجدد المأساة في خان يونس، هذه المدينة التي عرفت طعم الفقد في كل بيت وكل شارع. يعاني السكان هناك من نقص كبير في المواد الأساسية، وسط مشاهد الدمار التي تحاصرهم من كل جهة. يسعى الناجون لانتشال جثث أحبائهم من تحت الأنقاض، محاولين التمسك بذكريات من رحلوا. في ظل كل هذا، تُمنع طواقم الإسعاف من الوصول إلى المناطق المستهدفة، ما يزيد من معاناة الجرحى ويجعلهم يموتون ببطء تحت الأنقاض. أحياءٌ بأكملها باتت خاويةً، حيث فُقدت عائلات بأكملها، ليصبح مشهد الناجين وهم يبحثون عن أحبائهم وسط الركام تعبيرًا مؤلمًا عن ثمن الحرب على المدنيين.
رفح: الدمار الذي طال الأحلام
أما رفح، التي تقع على الحدود مع مصر، فقد شهدت هي الأخرى مأساةً من نوع آخر. كان الأهالي يتوقعون أن يظلوا بعيدين عن الاستهداف العشوائي، لكن القصف لم يترك مكانًا آمنًا، حيث تعرضت الأحياء السكنية المكتظة لعمليات قصفٍ كثيفة، مما حوّل هذه الأحياء إلى مدافن جماعية لأبرياء. تعيش الأسر في رفح بين الركام، عاجزةً عن إخلاء الضحايا، وتوديع من رحلوا بكرامة تليق بهم. الدمار لم يكن فقط في البيوت، بل امتد إلى المدارس والمرافق العامة، ليصبح الأطفال والأمهات في حالة خوف دائم، غير آمنين حتى في بيوتهم.
نظرات التشفي والغرور: عيونٌ تتلذذ بالقتل
ما يثير الرعب والحسرة في هذا المشهد، هو مناظر التشفي التي تنقلها بعض وسائل الإعلام عن الجنود الإسرائيليين وهم ينظرون بغرور وفخر إلى الدمار الذي ألحقوه ببيوت المدنيين. تشاهد عيونهم المليئة بالتشفي وهم يرمقون أنقاض البيوت كأنها إنجازات تضاف إلى سجل انتصاراتهم. هذه النظرات الحاقدة لا تعكس فقط قسوة الحرب، بل تكشف عن نفوس تجرّدت من إنسانيتها، تعيش على ألم الآخرين، وتتلذذ بمشاهد القهر والمعاناة.
ضمير العالم الصامت: أين الإنسانية؟
وأمام كل هذه المشاهد الأليمة، يبقى العالم صامتًا، وكأن ما يحدث في غزة لا يستحق سوى عبارات جوفاء لا تخرج عن كونها "قلقًا" أو "دعوة لضبط النفس". تتسابق الدول الكبرى إلى إصدار بيانات باردة لا تترجم على أرض الواقع، ولا تحرك ساكنًا في وجه الآلة العسكرية التي تحصد الأرواح. ضمير العالم، أو ما تبقى منه، يبدو وكأنه غائب أو متواطئ، يكتفي بالمشاهدة والتنديد دون اتخاذ أي خطوات فعلية لحماية المدنيين الأبرياء. منظمات حقوق الإنسان تدين وتشجب، لكن صوتها يُخنق أمام مصالح سياسية واقتصادية أكبر من حياة البشر.
الآثار النفسية والاجتماعية: جروح لا تلتئم
ما يتعرض له سكان جباليا، خان يونس، ورفح ليس مجرد أضرار مادية، بل هو جرح عميق في وجدانهم ونفوسهم. يعيش الأطفال صدمات متكررة، فمشاهد الدماء والدمار والانفجارات تصبح جزءًا من يومياتهم، تاركة أثرًا لا يُمحى. تنمو الأجيال الجديدة تحت وطأة الرعب، ما قد يؤثر على نموهم النفسي والاجتماعي، ويزيد من التحديات المستقبلية. العائلات التي فقدت أحبائها تواجه صعوبة في تجاوز أحزانها، حيث تترسخ مشاعر الحزن واليأس في قلوبهم.
دعوة للتضامن وإحياء الضمير الإنساني
في ظل هذه المجازر المتواصلة، يبقى الأمل في أن يتحرك العالم، ليس لإدانة ما يحدث فحسب، بل للضغط من أجل إنهاء هذه المجازر ووقف نزيف الدماء. يتوجب على الضمير العالمي أن يستيقظ من سباته، وأن يتجاوز لغة البيانات ليحمي الأبرياء ويصون حقوق الإنسان، فالمجازر التي تُرتكب في جباليا، خان يونس، ورفح لا تندرج ضمن اختلافات سياسية، بل هي انتهاك صارخ للحق الإنساني في الحياة والسلام.
إن ما يحدث اليوم في غزة يستحق وقفة حقيقية من كل إنسان، فالصمت لم يعد مقبولاً، والتنديد لم يعد كافيًا. يجب على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية، وأن يعمل بكل ما لديه من أدوات سياسية وقانونية لوقف هذا الجنون الذي يفتك بأرواح الأبرياء.