بقلم: أسماء مالك
في السادس من أكتوبر من كل عام، تحتفل مصر بذكرى نصر عظيم سيظل محفورًا في الذاكرة الوطنية والعسكرية إلى الأبد. إنه يوم الكرامة، يوم أعاد فيه المصريون صياغة معادلات القوة وسطور التاريخ، عندما عبر الجنود المصريون قناة السويس محققين معجزة عسكرية كانت تعتبر شبه مستحيلة.
في هذا اليوم نتذكر الأبطال الذين لمعت أسماؤهم في سماء الوطن، ومن بينهم المهندس المقدم باقي زكي يوسف، الرجل الذي أضاء بفكرته طريق العبور العظيم.
في أعقاب هزيمة 1967، كان الجيش المصري يواجه تحديًا نفسيًا وعسكريًا هائلًا. خط بارليف، الذي أقامه الإسرائيليون على الضفة الشرقية لقناة السويس، كان يُعتبر حصنًا لا يُخترق. الجنود المصريون، ومعهم البلاد بأسرها، كانوا يتطلعون إلى لحظة استعادة الكرامة واسترداد الأرض.
وكما علمنا التاريخ، كل معجزة تبدأ بفكرة، وكل نصر يحتاج إلى بصيرة ثاقبة وشجاعة لا تعرف الخوف. في هذا الوقت الحرج، ظهر المهندس المقدم باقي زكي يوسف، بطل غير تقليدي، كان يحمل في قلبه إصرارًا على تغيير مجرى الأحداث.
كُلّفت الفرقة 19 في يوليو 1969 بمهمة مستحيلة؛ اختراق الساتر الترابي لعبور قناة السويس. الطرق التقليدية كانت تتطلب وقتًا طويلاً وتضحيات جسيمة. كان باقي زكي يعمل في ذلك الوقت رئيسًا لفرع المركبات في الفرقة 19 مشاة، ضمن نطاق الجيش الثالث الميداني غرب قناة السويس. كان يعرف جيدًا حجم التحدي الذي يفرضه الساتر الترابي الضخم لخط بارليف، والذي كان الجميع يراه عقبة مستحيلة العبور. العمليات العسكرية التقليدية تتطلب وقتًا طويلًا ومعدات معقدة، مما يعني خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
لكن دائمًا في قلب المحن تُخلق المنح. استدعى المهندس الشاب فكرة مستوحاة من خبرته السابقة في بناء السد العالي بأسوان. تذكر كيف كانت قوة المياه تُستخدم في تجريف الجبال هناك.
من منطلق هذه الفكرة، بزغت في ذهنه فكرة جديدة
لماذا لا نستفيد من قوة المياه لتجريف الساتر الترابي لخط بارليف؟
بالنسبة لباقي زكي، لم تكن هذه مجرد فكرة بسيطة، بل كانت حلًا عمليًا يمكن أن يُحدث فرقًا جوهريًا.
قانون نيوتن الذي يتحدث عن العلاقة بين القوة والتسارع كان دليله العلمي، ولكنه كان يحتاج إلى التطبيق الصحيح. هذه الفكرة التي استلهمها من عمله المدني، كانت تحمل مفتاح النصر العسكري.
بدأ باقي زكي في تقديم فكرته للقيادة العسكرية، وأصر على أن قوة المياه قادرة على شق ثغرات في الساتر الترابي، وهو ما كان يعتبره الكثيرون أمرًا غير تقليدي بل وربما غير معقول.
لكن هذا الإصرار على الابتكار وعلى إيجاد حل مختلف، وبعد مشاورات مع القادة، تم إعتماد الفكرة و بدأت تجد طريقها إلى التنفيذ.
وفي السادس من أكتوبر 1973، مع بداية الحرب، انطلقت القوات المصرية نحو القناة، محملة بالشجاعة والتصميم. لكن السلاح السري في تلك العملية لم يكن مجرد الدبابات أو الطائرات، بل كان خراطيم المياه العملاقة التي استُخدمت لتفجير الساتر الترابي.
وبالفعل، انهار خط بارليف في ساعات قليلة، مما سمح للقوات المصرية بعبور القناة وفتح الطريق نحو استعادة الأرض المحتلة.
كانت لحظة العبور تلك بمثابة انتصار مزدوج، انتصار للمصريين في ساحة المعركة، وانتصار لفكرة عبقرية خرجت من عقل رجل أدرك أن الحلول البسيطة قد تكون الأشد تأثيرًا.
قصة اللواء باقي زكي يوسف ليست مجرد قصة عن الابتكار العسكري فحسب، بل هي قصة عن الإنسانية، عن شخص رأى في المستحيل فرصة. إنها قصة عن إصرار الإنسان المصري، ليس فقط في مواجهة العدو، بل في مواجهة الأفكار التقليدية والتحديات الكبيرة. فباقي زكي لم يكن مجرد جندي في حرب أكتوبر، بل كان رمزًا للعقل المصري الذي لا يتوقف عن التفكير والبحث عن الحلول، ورمزًا للشجاعة التي تتجاوز حدود الخوف.
في تلك اللحظة، أثبت المصريون للعالم أن الشجاعة لا تكمن فقط في السلاح، بل في العقل والإرادة التي لا تنكسر.
بارك اللهم في أبطالنا ورحم شهداءنا، فبفضلهم، سيظل السادس من أكتوبر يومًا خالدًا في وجدان الأمة المصرية.