recent
أخبار ساخنة

ملجأ يتامى المشاعر/شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS
ملجأ يتامى المشاعر

حسين السمنودي 

هناك أماكن لا تُرى، لا تُلتقط لها صور، ولا تُكتب عنها عناوين، لكنها تعجّ بالبكاء أكثر من المقابر، ويُسمَع فيها أنين لا تلتقطه الآذان. هناك، في زاوية مهملة من الروح الإنسانية، يقوم ملجأ يتامى المشاعر؛ لا سقف له إلا الصبر، ولا جدران إلا الخذلان، ولا أرضية إلا تراكم الدموع اليابسة التي لم تجد خدًّا تبكي عليه. هو ليس ملجأً للهروب من المطر، بل من قسوة القلوب، ليس مأوى من البرد، بل من صقيع التجاهل.

في هذا الملجأ يجتمع أولئك الذين لم تُحتَضَن مشاعرهم يومًا. الذين كبروا سريعًا لأن أحدًا لم يكن متفرغًا لطفولتهم. الذين تعلّموا الصمت لأن كلامهم كان عبئًا على غيرهم. الذين اعتادوا أن يكونوا سندًا للجميع، ثم سقطوا ذات يوم فلم يجدوا أرضًا تمسك بهم. هنا تُعلَّق القلوب على المشانق بصمت، لا لأنهم أخطأوا، بل لأنهم شعروا أكثر مما ينبغي.

هنا يسكن الذين أحبّوا بصدق، فاتهموهم بالسذاجة. الذين وثقوا، فاعتُبرت ثقتهم غباءً. الذين سامحوا، فظنّهم الآخرون ضعفاء. كل مشاعرهم كانت نظيفة أكثر من اللازم في عالم ملوّث بالمصالح. دخلوا العلاقات بقلوب عارية، فخرجوا منها مثقوبين، ينزفون دون جرح ظاهر. كل واحد منهم يحمل في صدره قصة لم تكتمل، وحلمًا مات واقفًا، وكلمة “كنتُ أتمنى” ثقيلة كالجنازات.

في ملجأ يتامى المشاعر، لا تُسمَع الضحكات، فقط ابتسامات مُدرَّبة. ابتسامات وُلدت من الخوف لا من الفرح. هنا يبكي الناس من الداخل، بكاءً لا يُحدِث صوتًا، لكنه يترك تصدعات في الروح. بكاءً لا ينزل دموعًا، بل يُنقص العمر. بكاءً يجعل القلب يشيخ قبل الجسد. كل دمعة لم تسقط تحولت إلى حجر، وكل حجر تراكم حتى صار القلب أثقل من الاحتمال.

الإنكسار هنا ليس لحظة، بل حالة مزمنة. إنكسار يتكرر كلما تذكّر أحدهم كيف كان يمنح بلا حساب، وكيف كان ينتظر كلمة واحدة تُعيد له توازنه، فلم تأتِ. إنكسار حين تدرك أنك كنت دائمًا الخيار الأخير، والملاذ المؤقت، والمسكن وقت الحاجة فقط. إنكسار حين تكتشف أنك كنت حاضرًا في كل الأزمات، وغائبًا في كل الأفراح. إنكسار حين ترى نفسك تتلاشى ببطء، ولا أحد يلاحظ.

في هذا الملجأ، تجلس المشاعر متقابلة كأيتام حرب. الحب هنا أعرج، فقد قُطعت ساقه يوم خُذِل. الأمان أعمى، لأن أحدًا لم يره حين احتاجه. الثقة تنزف، لأنها طُعنت من أقرب الأيدي. والحنين طفل يبكي بلا أم، يعود كل ليلة ليذكّرك بمن رحلوا، وبمن تغيّروا، وبمن وعدوا ولم يفوا. الحنين في هذا المكان لا يهدأ، لأنه يعرف أن الماضي، رغم ألمه، كان أصدق من الحاضر.

ملجأ يتامى المشاعر مليء بأشخاص لو وضعت قلوبهم على الطاولة لانكسرت الطاولة خجلاً. أشخاص يحملون وجعًا أكبر من أعمارهم، وأثقل من أجسادهم. يعيشون بنصف طاقة، لأن النصف الآخر استُهلك في إرضاء الآخرين، وفي محاولات الفهم، وفي تبرير القسوة، وفي إعطاء الأعذار لمن لم يطلبها. هم أولئك الذين قالوا دائمًا: “لا بأس”، بينما كل شيء فيهم كان ينهار.

الليل في هذا الملجأ طويل، أطول من الصبر نفسه. الليل هو وقت الحقيقة، حين تسقط الأقنعة، وتخرج الأصوات المحبوسة، ويجلس كل واحد أمام نفسه دون وسطاء. هناك، تتفجّر الأسئلة المؤلمة: لماذا لم أكن كافيًا؟ لماذا لم يُمسك أحد بيدي وأنا أسقط؟ لماذا كان عليّ أن أكون قويًا طوال الوقت؟ أسئلة بلا إجابات، تترك القلب معلقًا بين الغضب والحزن، بين الرغبة في الرحيل والخوف من الوحدة.

ومع ذلك، ورغم كل هذا السواد، لا يخلو ملجأ يتامى المشاعر من شيء يشبه النبض الأخير قبل الموت. شيء خافت، ضعيف، لكنه عنيد. ربما هو بقايا أمل، أو عادة الحياة في المقاومة. فهؤلاء، رغم كل ما كُسِر فيهم، ما زالوا يشعرون. لم يتحولوا إلى حجارة، ولم يتعلموا القسوة، ولم يفقدوا إنسانيتهم. ما زالوا يرتجفون من الألم، وهذا وحده دليل أنهم أحياء.

وهنا، في نهاية الطريق المبلل بالخذلان، يقف هذا الملجأ شاهدًا على قلوبٍ لم تُكسَر لأنها ضعيفة، بل لأنها كانت صادقة أكثر مما يحتمل هذا العالم. قلوبٌ نزفت حتى الجفاف، ثم واصلت النبض حياءً من الله لا رغبةً في الحياة. قلوبٌ قالت يا رب في السر، ولم تجد في الأرض مجيبًا، فرفعت شكواها إلى السماء، حيث لا تُهمل الدموع، ولا تضيع الأنّات، ولا يُنسى المكسورون. ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾؛ ضيقٌ يعرفه الله، ويعلم ثقله، ويعلم كم مرة حاول صاحبه أن يتماسك فسقط دون أن يراه أحد.

ولمن طال حزنهم، وتراكمت خيباتهم، وناموا وهم يبتسمون للناس ويبكون في السر، فإن للقلوب ربًّا يقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وإن تأخر الاطمئنان، وإن طال الانتظار، فالوعد باقٍ، لا يسقط بالتقادم، ولا يصدأ مع الزمن. وكل قلبٍ يتيم المشاعر، له عند الله جبر، ولو بعد حين، ولو بعد عمرٍ كامل من الصبر.

وحين يشعر الإنسان أنه وحده في هذا الكون، تأتي الآية كيدٍ خفية تمسح على القلب: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾؛ معك وأنت تبكي دون صوت، معك وأنت تُكذِّب دموعك أمام الناس، معك وأنت تشك في قيمتك، معك حين تُخذَل للمرة الألف ولا تزال تحاول أن تكون إنسانًا طيبًا.

وكم من حزنٍ ظنه صاحبه نهاية، فإذا به بداية جبرٍ خفي، لا يُرى إلا بعد صبرٍ طويل: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾. تكرارٌ كأن الله يربّت به على القلوب المنهكة، ويقول لها: لن أتركك، ولو تركك الجميع، لن أخذلك، ولو خذلك العالم كله.

هذه الكلمات ليست وعدًا بالسعادة القريبة، ولا دعوة للنسيان السريع، بل اعترافٌ صادق بأن بعض الأحزان لا تزول، لكنها تُؤجَر. وأن بعض الدموع لا تُمسَح، لكنها تُرفَع. وأن بعض القلوب لا تُجبر في الدنيا، لكنها تُعَوَّض عند الله تعويضًا ينسف كل ما سبق من ألم. ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾.

سيظل ملجأ يتامى المشاعر قائمًا ما دامت القلوب تُهمل، لكن سيظل فوقه سماء لا تُغلَق، وربٌّ يقول للمكسورين: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾. فاطمئن أيها المنهك، لست منسيًّا، ولست بلا قيمة، ولست وحدك… فالله معك، والله لا يكسر قلبًا لجأ إليه، أبدًا.
google-playkhamsatmostaqltradent