recent
أخبار ساخنة

المبالغة في الحواديت… حين يُشوَّه العدل ويُصنَع الظلم/شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS


حسين السمنودي

في مجتمعاتنا، لا يولد الظلم دائمًا من سوطٍ أو قرارٍ جائر، بل كثيرًا ما يبدأ من “حدوتة” أُضيفت إليها مبالغة، أو رواية زُيّنت بالتضخيم، حتى خرجت عن حقيقتها، فصار البريء متَّهَمًا، والمخطئ مظلومًا في عيون السامعين. المبالغة في الحواديت ليست مجرد خطأ لغوي أو انفعال عابر، لكنها جريمة أخلاقية حين تلامس مصائر الناس، وتُحرّف ميزان العدل عن استقامته.
العدل بطبيعته يحتاج إلى هدوء، وإلى سماعٍ متأنٍّ لكل الأطراف، وإلى عقلٍ يزن الوقائع لا الانطباعات. أما المبالغة، فهي ابنة الغضب والهوى، تتغذّى على الإثارة، وتبحث عن التصفيق لا الحقيقة. وحين تُروى الحكايات بغير أمانة، يتحول السرد إلى سكينٍ يجرح، لا إلى شهادةٍ تُنصف. كلمة زائدة قد تُشعل فتنة، ووصف مُضخَّم قد يهدم سمعة، وحكاية منقوصة قد تُدين إنسانًا بلا ذنب.
كم من خلافٍ بسيط كبر لأنه حُكي بعينٍ واحدة، وكم من خصومةٍ كان يمكن أن تُحل بالعدل، لكنها استحالت ظلمًا لأن “الحدوتة” خرجت من فمٍ إلى فم، وكل فمٍ أضاف من عنده ما يوافق هواه. هنا لا يعود الظلم فعلاً مباشرًا، بل نتيجة تراكمية لمبالغات متتالية، حتى يضيع الأصل، وتبقى الأسطورة.
العدل لا يعيش مع الضجيج، ولا يزدهر في بيئةٍ تُكافئ المبالغة وتُهمِّش الحقيقة. العدل يحتاج إلى شجاعة الاعتراف، وإلى أمانة النقل، وإلى ضميرٍ يرفض أن يكون شاهد زور. أما الظلم، فيجد في الحواديت المبالغ فيها أرضًا خصبة، لأنها تُغري السامع، وتُشبع فضول الجماهير، ولو على حساب إنسانٍ يُسحق تحت ثقل الكلام.
إن أخطر ما في المبالغة أنها تُلبس الظلم ثوب البراءة، وتمنح القسوة مبررًا أخلاقيًا زائفًا. وحين يعتاد الناس هذا النمط من السرد، يصبح الظلم مألوفًا، ويصير العدل غريبًا، يُطالَب دائمًا بالدليل، بينما تُصدَّق المبالغة بلا سؤال.
وتبقى الخلاصة أن أخطر أشكال الظلم هو ذلك الذي يتخفّى خلف الكلمات، ويتسلل إلى العقول في صورة حكايات منمّقة ومبالغ فيها، تُروى بلا خوف من الله ولا اعتبار لضميرٍ أو ميزان عدل. فالمبالغة ليست مجرد زيادة في الوصف، بل انحراف متعمد عن الحقيقة، وقد تكون سهمًا مسمومًا يُصيب إنسانًا في شرفه أو سمعته أو مستقبله، بينما يظن الراوي أنه لم يفعل سوى “حكي حدوتة”. هنا يصبح الكلام مسؤولية، وتتحول الكلمة إلى أمانة، إما أن تُنقذ صاحبها أو تُهلك غيره.
إن العدل لا يُبنى على الانطباعات، ولا على الروايات المنقوصة، ولا على الحكايات التي تُروى بنصف عقل ونصف هوى. العدل يحتاج إلى قلوبٍ نظيفة لا تستمتع بتشويه الآخرين، وإلى عقولٍ لا تنساق خلف أول رواية تُقال، وإلى نفوسٍ تُدرك أن السكوت عن المبالغة أحيانًا عدل، وأن تصحيح الحكاية واجب، وأن إنصاف الغائبين فريضة أخلاقية قبل أن تكون دينية أو قانونية. فكم من مظلومٍ خسر كل شيء لأن أحدهم بالغ، وكم من حقٍ ضاع لأن الحقيقة لم تكن مثيرة بما يكفي لتُروى.
وحين يختل ميزان الحكايات، يختل ميزان العدالة، وحين نُجامل في الظلم بالصمت، نشارك فيه دون أن نشعر. فليس الظالم وحده من يتحمل الوزر، بل كل من صدّق دون تمحيص، وكل من نقل دون تدقيق، وكل من استمتع بالقصة وهو يعلم في داخله أنها غير كاملة. عندها يصبح المجتمع شريكًا في الجُرم، وتتحول المبالغة من خطأ فردي إلى وباء جماعي.
إن المجتمعات التي تحترم العدل هي تلك التي تُقدّس الحقيقة، ولو كانت مُرّة، وترفض المبالغة ولو كانت ممتعة. هي مجتمعات تُنصت قبل أن تحكم، وتفهم قبل أن تُدين، وتعلم أن الكلمة قد تقتل معنويًا كما يقتل السلاح جسديًا. فليست كل الحكايات تُروى، وليست كل الروايات تُصدّق، وليس كل صمت ضعفًا، فقد يكون الصمت أحيانًا هو قمة العدل.
وفي زمنٍ صار فيه الكلام أسهل من التفكير، والرواية أسرع من الحقيقة، يبقى الرهان الحقيقي على ضمير الإنسان: هل يختار أن يكون جسرًا للعدل أم أداة للظلم؟ هل يُنقّي الحكاية من الهوى أم يلوّنها بالمبالغة؟ فالتاريخ لا يتذكر كثرة الحواديت، بل يتذكر من قال كلمة حق، ومن أنصف مظلومًا، ومن رفض أن يكون شاهد زور في مسرح الحياة. وهنا فقط، يستعيد العدل هيبته، ويسقط الظلم مهما طال عمره، وتبقى الحقيقة، عارية لكنها منتصرة.
google-playkhamsatmostaqltradent