حسين السمنودي
لو اقتربت قليلًا من حياة أي إنسان يُشار إليه بالبَنان، وتراجعْت خطوة واحدة فقط خلف الصورة التي يراها الناس، ستكتشف حقيقة صادمة ومريحة في آنٍ واحد: الصلاح لم يولد كاملًا، ولم يسقط من السماء جاهزًا، ولم يكن نتيجة مسار مستقيم بلا انحرافات. الصالحون لم يصلوا لأنهم لم يخطئوا، بل لأنهم لم يكذبوا على أنفسهم حين أخطأوا.
نحن نعيش في زمن يطالب الإنسان أن يكون مثاليًا أو لا يكون، إما أبيض ناصع أو أسود حالك، ولا مساحة للرمادي، مع أن حياة البشر كلها رمادية، متقلبة، مترددة، مليئة بالمحاولات الفاشلة والقيام المتأخر. الصالح الحقيقي هو إنسان أدرك هشاشته، واعترف بها، ولم يحاول تغطيتها بادعاء الطهارة، ولا استخدم الدين ليخفي ضعفه، بل واجه نفسه أولًا.
هناك فرق شاسع بين من لم يُختبر، ومن اختُبر فنجا. بين من لم تقترب منه الفتنة، ومن اقتربت منه حتى كادت تلتهمه ثم أفلت منها في اللحظة الأخيرة. كثيرون يخلطون بين الصمت والطهارة، وبين الهدوء والنقاء، لكن الحقيقة أن بعض الوجوه الهادئة تخوض أعنف الحروب داخلها، وبعض القلوب التي تبدو مطمئنة تحمل آثار معارك لا تُروى.
الصالحون لا يملكون قلوبًا من حجر، بل قلوبًا جرّبت القسوة فكرهتها، وذاقت مرارة البُعد فاشتاقت، وسقطت مرة أو أكثر ثم قررت ألا تموت على الأرض. هم أناس عرفوا طعم الخطأ، لذلك يقدّرون نعمة الصواب. عرفوا الانكسار، لذلك صاروا أرحم بالناس وأقل قسوة في الأحكام.
وهنا يجب أن نتوقف طويلًا، لا لنمجّد الذنب، بل لنفهم الإنسان.
الذنب في حد ذاته ليس بطولة، ولا حكاية تُروى، ولا وسامًا يُعلّق، لكنه أيضًا ليس شهادة إعدام أبدية. الخطر الحقيقي ليس في الوقوع، بل في التعايش مع السقوط وكأنه وضع طبيعي. الصالح ليس من لم يمرّ من هنا، بل من مرّ ولم يُقيم، من لمس الباب الخطأ ثم أغلقه ومضى، من عرف طريقًا مظلمًا فقرر ألا يُكمل فيه حتى النهاية.
كثير من الصالحين لو رُفعت عنهم الأقنعة القديمة، لا أقنعة الرياء بل أقنعة الستر، لانهارت صورهم في أعين الناس، لا لأنهم سيئون، بل لأن الناس لا تحتمل الحقيقة. الحقيقة أن أغلب التحولات العميقة تبدأ من نقطة خجل، من لحظة احتقار للذات القديمة، من قرار صامت يقول: “لا أريد أن أكون هكذا بعد الآن”.
والستر ليس لأن الذنب صغير، بل لأن الفرصة كبيرة. لأن في داخل الإنسان شيئًا يستحق الإنقاذ. لأن الله لا ينظر إلى اللقطة، بل إلى المسار. لا إلى التعثر، بل إلى الاتجاه. لذلك يُستَر العبد لا ليتمادى، بل ليُصلح، لا ليطمئن للخطأ، بل ليشعر بثقل الأمانة.
أخطر ما يمكن أن يفعله المجتمع هو تحويل الصلاح إلى تمثال، وإلى حالة فوق بشرية، ثم استخدام هذا التمثال لسحق من يحاول. حينها يصبح الصالحون خائفين من الاعتراف بإنسانيتهم، ويصبح المذنبون خائفين من المحاولة، ويضيع الطريق بين الادعاء واليأس.
لا تنظر إلى الصالحين باعتبارهم دليل إدانة لك، ولا تنظر إلى ذنوبك باعتبارها نهاية الطريق. الطريق أطول، وأرحب، وأعمق مما نتصور. الله لا يصنع من البشر ملائكة، بل يصنع من المكسورين بشرًا أفضل، ومن المترددين عائدين، ومن الساقطين واقفين.
والحقيقة الأعمق، التي لا تُقال كثيرًا: بعض القلوب لا تُنقّى إلا بعد أن تتسخ، ولا تلين إلا بعد أن تنكسر، ولا تعرف قدر النور إلا بعد أن تتيه في الظلمة. ليس كل من تألم ضاع، وليس كل من أخطأ هلك، وليس كل من صلح كان نقي البداية.
فلا تُفتّش في ماضي الناس لتسقط حاضرهم، ولا تُفتّش في ماضيك لتدفن مستقبلك. الصلاح ليس سيرة ذاتية بلا أخطاء، بل مسيرة طويلة من الوعي، والمراجعة، والعودة، والاختيار المتكرر للخير رغم القدرة على غيره.
لا تظنوا أن الصالحين بلا ذنوب…
بل ظنوا أنهم بشر لم ييأسوا من أنفسهم، ولم يملّ الله منهم.