حسين السمنودي
في لحظات الاضطراب الإقليمي الكبرى، لا يكون السؤال الحقيقي هو: هل هناك حرب؟ بل: من يريدها؟ ولماذا؟ وعلى حساب من؟ ومصر، بتاريخها وموقعها وثقلها، ليست دولة عابرة في حسابات الصراع، بل هي الجائزة الأصعب، والرقم الذي إن اختلّ اختلّ الإقليم كله. من هنا يصبح التساؤل مشروعًا: هل هناك من يعمل عمدًا على جرّ مصر إلى مواجهة مباشرة؟ وهل ما نراه من توتر حول حدودها ومصالحها هو صدفة أم سياسة محسوبة؟
قراءة المشهد الإقليمي تكشف أن ما يدور حول مصر ليس أحداثًا منفصلة، بل حلقات متصلة في سلسلة ضغط طويلة. غزة الملتهبة، ليبيا غير المستقرة، السودان الجريح، شرق المتوسط المتنازع عليه، والبحر الأحمر الذي لم يعد آمنًا كما كان، كلها دوائر نار تحيط بمركز ثقل واحد. البعض يرى في استقرار مصر عائقًا أمام إعادة رسم الخرائط، والبعض الآخر يرى في جيشها سدًا منيعًا أمام مشاريع الفوضى، لذلك يصبح استنزاف الدولة سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا هدفًا بحد ذاته.
الأعداء لا يفضّلون المواجهة المباشرة دائمًا، لأنها مكلفة وغير مضمونة النتائج، خاصة مع دولة تعرف معنى الحرب، وتملك جيشًا وطنيًا عقيدته الدفاع عن الأرض لا المغامرة. لذا تُدار المعركة بوسائل أخرى: إشعال الأطراف، تضخيم الأزمات، خلق صدامات بالوكالة، بث الشائعات، الضغط الإعلامي، وتحريك الملفات الحقوقية والاقتصادية في توقيتات محسوبة. الهدف ليس الحرب في حد ذاتها، بل دفع مصر إلى زاوية حرجة؛ إما أن تتدخل فتُستنزف، أو تصمت فيُزايد عليها ويُشكك في دورها.
وأخطر ما يُراهن عليه خصوم مصر هو الداخل قبل الخارج. فالدولة التي تتماسك جبهتها الداخلية يصعب جرّها إلى ما لا تريد. لذلك تُستهدف ثقة المواطن، ويُضخ الإحباط، وتُضرب الرموز، ويُصوَّر كل قرار على أنه فشل، وكل تحرك على أنه توريط. إنها حرب وعي بامتياز، تسبق أي حرب مدافع، وتفتح الطريق لها إن نجحت.
ورغم ذلك، فإن مصر تعلّمت الدرس. تدرك أن الحرب المباشرة ليست نزهة، لكنها تعرف أيضًا أن التفريط في الأمن القومي أخطر من الحرب نفسها. لهذا تسير الدولة على خيط دقيق: لا اندفاع غير محسوب، ولا تراجع يُفسَّر ضعفًا. تحرّكات دبلوماسية مكثفة، رسائل ردع واضحة، جاهزية عسكرية صامتة، وإدارة أزمات طويلة النفس، كلها أدوات تُستخدم لإفشال مخطط الجرّ إلى مواجهة شاملة.
إن ما يُحاك ضد مصر لم يعد خافيًا على ذي بصيرة؛ فخيوط المؤامرة باتت مكشوفة وإن تعددت الأيادي وتغيّرت الأقنعة. فما يجري على أرض الصومال، وفي القرن الإفريقي، وعلى تخوم البحر الأحمر وباب المندب، لا يمكن فصله عن الأمن القومي المصري. هناك تقاطع مصالح خبيث بين إسرائيل التي تبحث عن تطويق استراتيجي جديد، وإثيوبيا التي تحلم بدور إقليمي أكبر من حجمها ولو على حساب استقرار المنطقة، وقوى غاصبة وماكرة لا ترى في الإقليم سوى ممرات وموانئ وثروات وأسواق نفوذ. الهدف واحد: خنق مصر استراتيجيًا عبر الالتفاف عليها، لا مواجهتها مباشرة.
استهداف الدور المصري في الصومال ليس كراهية للصومال، بل خوفًا من مصر وقدرتها على إعادة التوازن ومنع تحويل المنطقة إلى منصة عداء دائم. سقوط الصومال في قبضة مشاريع مشبوهة يفتح أبواب الفوضى على البحر الأحمر ويضع الأمن القومي العربي والإفريقي على المحك، وهو ما تعيه القاهرة جيدًا. لذلك تتحرك بعقل الدولة التي تراكم الخبرة، وتقرأ التاريخ، وتُفشل النوايا قبل أن تتحول إلى أمر واقع.
وإن كانت المكائد تحيط بمصر من كل اتجاه، فإن قوتها لم تكن يومًا في السلاح وحده، بل في شعب يعرف معنى الدولة، وجيش يعرف متى يصمت ومتى يتحرك، وقيادة تدرك أن التفريط في شبر من الأمن القومي هو بداية الانهيار. ستظل مصر عصيّة على الكسر، مهما تكالبت عليها قوى الحقد والكراهية، ومهما حاول الغاصبون والماكرون إعادة رسم الخريطة بدماء الأبرياء.
سيبقى الرهان الخاسر هو الرهان على سقوط مصر. هذه الأمة التي واجهت الغزاة عبر آلاف السنين لن تهزمها مؤامرة تُدار في الخفاء، ولا تحالفات تُبنى على الخديعة. فمصر حين تُحاصر تتماسك، وحين تُهدَّد تستيقظ، وحين يُراد بها السوء يكون قدرها دائمًا أن تخرج من العاصفة أكثر وعيًا وصلابة واستعدادًا، حافظةً لنفسها ولمحيطها، وقاطعةً الطريق على كل من يظن أن الزمن غيّر من حقيقتها أو من دورها الذي لا يسقط بالتقادم.