حسين السمنودي
في عمق سيناء، حيث الأصالة والعراقة، تبرز قبيلة المساعيد باعتبارها واحدة من أكبر وأهم القبائل التي صنعت للتاريخ بصمة وللعرف قيمة وللشرف معنى. ولعل ما يميز هذه القبيلة العريقة ليس فقط قوتها وانتشارها وعمق جذورها، بل ما تمتاز به من نظام قضائي عرفي متين صار عبر السنين مرجعاً لا يُرد ولا يُستأنف، حتى أصبح الناس يطلقون على أحكامه وصف المحكمة الدستورية العليا، لأنه الحكم الذي ليس بعده حكم، والكلمة التي لا يعقبها كلمة أخرى. وقد ارتبط هذا القضاء العرفي باسم جلبانة، تلك القرية التي تتوسط القنطرة شرق وتُعد مقام المساعيد، ومركز الثقل والقرار، ومرجع القبيلة الذي يقصده الجميع من أبناء العشيرة أو حتى من القبائل الأخرى حينما تشتد الخلافات ويعظم النزاع. فجلبانة لم تكن مجرد بلدة، بل صارت منارة للعدل العرفي، ومكاناً تجتمع فيه العقول الراجحة وأهل الرأي والحكمة من شيوخ القبيلة وكبارها، ليفصلوا فيما استعصى من قضايا لا تحتمل تأخيراً ولا قبولاً بالمساومة.
لقد رسخ المساعيد عبر تاريخهم الطويل مبدأ أن العدل أساس الملك، وأن القوة ليست في السلاح وحده وإنما في الكلمة التي تُحترم ويُصان بها الحق. ومن هنا جاءت أحكامهم العرفية حاسمة فاصلة، يرضى بها الجميع، لأنها تقف على قاعدة ثابتة من الأعراف المتوارثة والضمير الجمعي الذي يؤمن أن كلمة الشيخ والقاضي العرفي بمثابة عهد لا يُنقض. ولعل ما أعطى لهذه الأحكام قدسيتها أن المتخاصمين يدخلون مجلس القضاء العرفي في جلبانة وهم يعلمون مسبقاً أن الحكم الصادر سيكون نهائياً، لا استئناف فيه ولا نقض، وأن الرضا به واجب، ليس من باب الخوف وإنما من باب الإيمان بأن الحكم صدر بالعدل والإنصاف. وهكذا ترسخت هيبة هذا القضاء حتى صار الجميع يعتبره سقفاً أعلى من كل الأحكام، ومن خالفه كمن خرج عن القبيلة وقوانينها وعزتها.
وفي جلبانة، مقام المساعيد، شهدت المجالس العرفية الفصل في قضايا دماء وأرض وأعراض، وكلها قضايا خطيرة تهز أركان المجتمع البدوي، لكنها كانت تُحل بحكمة رجالها وعدالة أحكامهم. وقد برع شيوخ المساعيد في صياغة الأحكام التي تجمع بين جبر الضرر ورد الحقوق من جهة، وبين فرض الردع والهيبة من جهة أخرى، فلا يظلم أحد ولا يجرؤ آخر على تكرار الخطأ. وهكذا تحول القضاء العرفي في جلبانة إلى مؤسسة متكاملة قائمة بذاتها، قديمة في أصلها، حديثة في فاعليتها، لا تحتاج إلى أوراق رسمية أو مذكرات قانونية، وإنما تحتاج فقط إلى كلمة رجل صادق يزن الأمور بميزان العدل.
وقد استفاد المجتمع من هذه المرجعية العرفية أيما استفادة، فهي التي حالت دون تفشي الثأر، وحفظت الدماء، ومنعت الفتن، ورسخت السلم الاجتماعي لعقود طويلة. حتى أن الجهات الرسمية كثيراً ما وجدت في حكماء المساعيد سنداً لها في تثبيت الأمن والاستقرار، لأن ما يصدر عن جلبانة من أحكام يلقى القبول والالتزام الفوري من أبناء القبائل جميعاً. ومن هنا ارتبط اسم جلبانة بالعدل والحكمة، وصارت في وجدان الناس عنواناً للكلمة الفصل التي تحق الحق وتبطل الباطل وتغلق باب الخلاف إلى الأبد.
لقد كان ولا يزال الحكم العرفي لقبيلة المساعيد في جلبانة تجسيداً حقيقياً لقوة العرف إذا استقام، وعدالة المجتمع إذا تحرك بضمير حي، وهيبة الكلمة إذا صدرت عن رجال يُشهد لهم بالحكمة والنزاهة. إنه حكم يشبه المحكمة الدستورية العليا في قوة نفاذه ورسوخه، بل يفوقها أحياناً في سرعة البت وإلزامية التنفيذ، لأنه لا يعتمد على نصوص مكتوبة فحسب، وإنما يستمد شرعيته من إيمان الناس به وخضوعهم له بإرادتهم الحرة. وهكذا سيبقى الحكم العرفي للمساعيد عنواناً للعدل في سيناء ومصر كلها، وحصناً للأمن الاجتماعي، وكلمة ليس بعدها كلمة، وحكماً ليس بعده حكم.
ومهما اختلفت الأزمنة وتغيرت القوانين وتبدلت الظروف، سيظل الحكم العرفي لقبيلة المساعيد في جلبانة علامة مضيئة في تاريخ القضاء الشعبي، وسيفاً مسلطاً على الباطل، ودرعاً واقياً يحمي الحقوق ويصون الدماء والأعراض. فالقوة الحقيقية لا تكمن في تعدد المحاكم والدرجات، بل في كلمة رجل إذا نطق صدقه الجميع، وإذا حكم رضخ له الخصمان، وإذا أنهى النزاع أطفأ نار الفتنة من جذورها. وما دامت جلبانة باقية بمقامها، وشيوخ المساعيد قائمين بأمانتهم، فإن المجتمع القبلي سيبقى محصناً من الانقسام، آمناً من الفوضى، مطمئناً إلى أن هناك حكماً لا يُرد، وقضاءً لا يُطعن فيه، وكلمة عدل تظل خالدة بخلود قيم القبيلة وأصالتها. وهكذا يبقى الحكم العرفي للمساعيد الذي ليس بعده حكم، مرجعاً للأجيال، ومقاماً للأمان، وركناً من أركان العدل الذي قامت عليه حياة الناس في سيناء منذ القدم وحتى اليوم.