حسين السمنودي
قانون الإيجار القديم لم يعد مجرد نص جامد في دفاتر التشريع، بل أصبح قضية علمية وإنسانية واقتصادية واجتماعية، تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تحقيق التوازن بين العدالة والواقع، بين الحقوق المكتسبة وظروف التغير الزمني، بين البعد الإنساني والضرورة الاقتصادية.
من الناحية العلمية، فإن أي نظام اقتصادي مستقر يقوم على حرية التعاقد وتوازن العرض والطلب، وهذان المبدآن تم تقويضهما لعقود طويلة بسبب قوانين الإيجار القديمة، التي جمدت العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر، وجعلتها في اتجاه واحد: التزام دائم من المالك، واستفادة أبدية من المستأجر. ولعل هذا يتنافى مع أحد أهم المبادئ الدستورية وهو الحق في الملكية الخاصة، الذي لا يجوز تعطيله أو تقييده إلا بقانون عادل ومتوازن، ولفترة زمنية مؤقتة، لا دائمة.
أما من الناحية الإنسانية، فلابد من الاعتراف أن الطرفين – المالك والمستأجر – قد دفعا ثمن هذا القانون بطرق مختلفة. المالك الذي ورث عقارًا لم يعد يساوي شيئًا، ويدفع ضرائب وتكاليف صيانة مقابل "إيجار رمزي" لا يوازي حتى تكلفة القهوة اليومية، لم يعد يرى في ملكيته أملًا ولا مردودًا. والمستأجر، الذي ورث بدوره حق السكن من جيل إلى جيل، اعتاد على وضع قانوني غير طبيعي، حتى أصبح التغيير بالنسبة له تهديدًا وجوديًا، وليس مجرد تعديل قانون.
لكن هنا يظهر جوهر الأزمة: هل من العدل أن تظل علاقة قانونية واحدة قائمة إلى ما لا نهاية دون إعادة نظر، رغم تغير كل المعطيات الاقتصادية والاجتماعية؟
الإجابة المنطقية تقول: لا. فالقانون بطبيعته لا يجب أن يكون أبديًا، بل متغيرًا بتغير الزمن واحتياجات الناس، وإلا تحوّل من وسيلة لتنظيم الحياة إلى أداة لتعطيلها.
تطبيق قانون الإيجار الجديد هو ضرورة أخلاقية وإنسانية قبل أن يكون تشريعًا اقتصاديًا. ليس الهدف منه تشريد المستأجرين أو إرهاقهم، بل الهدف هو إعادة الحق إلى نصابه، مع توفير ضمانات انتقالية تحفظ الحد الأدنى من الأمن السكني والاجتماعي للفئات الضعيفة، ككبار السن، والأرامل، وأصحاب المعاشات.
إن تجميد ملايين الوحدات السكنية المغلقة بسبب قوانين الإيجار القديمة، يمثل كارثة اقتصادية وإدارية بكل المقاييس. تلك الوحدات لا يتم استثمارها، ولا يتم تدويرها في سوق العقارات، ولا تدر دخلًا للدولة أو للملاك. وفي المقابل، نجد الشباب يعاني من أزمة إسكان حقيقية، ويضطر لدفع مبالغ ضخمة في الإيجار الجديد أو الشراء بالتقسيط المرهق.
وبلغة الأرقام، فإن الدراسات الاقتصادية تشير إلى أن هناك ما لا يقل عن 3 ملايين وحدة سكنية مغلقة بسبب قوانين الإيجار القديم، ولو تم تحريك هذه السوق بطريقة عادلة، فإنها ستساهم في حل جزء كبير من أزمة الإسكان، وستضخ مليارات الجنيهات في السوق العقاري، ما سينعكس على النمو الاقتصادي للدولة ككل.
المعادلة الصحيحة ليست بطرد المستأجر، ولا بظلم المالك، بل بتطبيق قانون عادل يقوم على الفصل بين الفئات المستحقة للدعم الإنساني، وبين الحالات التي انتهت الحاجة إليها. وهنا يأتي دور الدولة، بكل أجهزتها، لوضع تصور تدريجي لتطبيق القانون، يشمل:
تحديد جدول زمني للإخلاء أو التعديل التدريجي للإيجارات.
تعويضات أو بدائل سكنية للفئات غير القادرة فعليًا.
دعم مؤقت لمن تجاوزوا عمر الستين أو يعانون من أمراض أو ظروف خاصة.
إنشاء قاعدة بيانات رقمية دقيقة للعقارات المؤجرة بنظام الإيجار القديم، وتحديد الحالات الاجتماعية الحقيقية للمستأجرين.
بهذا الشكل، يتحول تطبيق القانون من صدمة إلى عملية إصلاح منضبطة، تحفظ كرامة الجميع، وتضمن سيادة العدالة، وتؤكد على جدية الدولة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظام عقاري ظل لسنوات معطلاً وعاجزًا عن مواكبة العصر.
إن قوة الدولة لا تقاس فقط بقدرتها على فرض القانون، ولكن أيضًا بقدرتها على صياغة قوانين تراعي الحق والرحمة معًا. والعدالة الحقيقية ليست أن ينتصر طرف ويُسحق آخر، بل أن يجد كل طرف موضعه الصحيح في ميزان الحقوق والواجبات.
وبينما نتابع هذا التحرك الحاسم من الدولة، تبقى الرسالة الأهم أن إصلاح قوانين الماضي ليس جريمة، بل فضيلة، شرط أن يتم بوعي شعبي، ومشاركة مجتمعية، ورؤية حكومية عادلة ومسؤولة.