حسين السمنودي
الصمت.. ذاك الرفيق الذي لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يحوي في طياته ما لا تحتمله آلاف الكلمات. كم من الأرواح لجأت إليه هربًا لا اختيارًا؟ وكم من القلوب اختارت السكوت لأن الحكاية أصبحت أثقل من أن تُروى؟
وراء كل صمتٍ عميق حكاية مهملة، وندبة لم تُرْتَق بعد، ودمعة سقطت دون صوت لأن أحدًا لم يعد يكترث. فالصمت ليس دومًا دلالة على الرضا، ولا يعني بالضرورة الحكمة أو النضج، بل كثيرًا ما يكون ستارًا سميكًا خلفه أرواحٌ أنهكها الكلام، وملّت من الشرح، ويئست من الفهم.
كرهت الأرواح الحديث لأن الحديث في عالم يغلب عليه التسرع والسطحية أصبح مرهقًا، فقد تحوّل من وسيلة للتواصل إلى أداة للجدل، ومن نافذة للتفريغ إلى جدار ترتد عليه الكلمات. عندما يتحدث الإنسان ولا يُصغى إليه، يصبح الصمت أرحم. وحين يتحول البوح إلى سلاح يُوجّه ضد صاحبه، يُفضّل الصمت ليحفظ ما تبقى من كرامة وجراح.
كرهت الأرواح الحديث لأن الكثير من العلاقات أصبحت قائمة على المجاملات لا المشاعر، على المصالح لا المودة، فالكلمات في هذه المعادلة تفقد بريقها، وتصبح بلا معنى. والروح لا تحتمل الزيف، فتنسحب بصمت.
كرهت الحديث لأنها خُذلت كثيرًا ممن ظنّت أنهم أقرب الناس، وتكشفت لها الوجوه التي كانت تختبئ خلف الأقنعة، فصارت ترى في الكلام مخاطرة، وفي الصمت ملجأ آمناً.
عندما تصمت الأرواح، فهي لا تعلن استسلامها، بل تحمي نفسها من الانهيار. الصمت قد يكون صراخًا مؤلمًا لا يُسمع، ووسيلة للحفاظ على بقايا الذات الممزقة. فبدلًا من الدخول في جدالات عبثية أو استنزاف عاطفي مع من لا يفهمون عمقك، تختار الروح أن تحتمي في كهف الصمت، حيث لا أسئلة ولا تفسيرات ولا تبريرات.
ورغم صمتها، فإن الروح ليست ميتة. بل هي حيّة تقاوم بطريقتها. قد تصمت لكنها ما زالت تحب، تتألم، تتذكر، وتحلم. فقط قررت أن تتخفف من عبء الحديث الذي لا يُجدي. اختارت أن تصغي لداخلها أكثر من صخب الخارج.
الصامت لا يريد من يحاوره، بل من يفهمه. لا يريد أحدًا يعترض طريق كلماته، بل شخصًا يلتقط وجعه من نظرة، ويقرأ ما لم يُقال. الصمت، في جوهره، اختبار نادر لمستوى الفهم بين الأرواح. فمن استطاع أن يشعر بك دون أن تتكلم، فقد بلغ قلبك.
الصمت أيضًا قد يكون شكلًا من أشكال التمرد، تمرد على التفاهة، على العبث، على الفوضى التي تملأ العالم. الصامت يرفض أن يكون جزءًا من ضوضاء الكلام، ويفضل أن يحافظ على نقاء روحه، ولو بالانعزال.
وربما لا نُدرك أحيانًا حجم الجراح التي تتخفّى خلف صمت الآخرين، وربما نظن أن من لا يتكلم لا يشعر، وأن من لا يشكو لا يتألم، لكن الحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك. الصمت ليس غيابًا عن الحياة، بل هو موقف منها، واختيار مؤلم لجأت إليه الأرواح التي أُنهكت من الصراخ دون مجيب. خلف الصمت أرواح ظنّت أن الحديث قد يُخفف عنها، فاكتشفت أنه يزيدها نزفًا، فآثرت الصمت. أرواحٌ بُترت أحلامها وهي تحاول التعبير، فأصبحت الكلمات عبئًا لا شفاء فيه.
هؤلاء الصامتون لا يحتاجون إلى من يَسألهم “لماذا لا تتكلم؟”، بل إلى من يربت على أكتافهم، ويمنحهم شعور الأمان، من يقرأ نظراتهم، ويشعر بأوجاعهم قبل أن ينطقوا بها. يحتاجون لمن يُدرك أن الصمت في بعض المواقف ليس تجاهلاً، بل رجاءً ألا يُكسر ما تبقى.
فيا ليتنا ننتبه لتلك الأرواح، ولا نزيد غربتها بأسئلتنا الباردة أو أحكامنا القاسية، فلعلها فقط كرهت الحديث، لا لأن في داخلها فراغًا، بل لأن في داخلها أشياء لا يصل إليها الكلام، وندوبًا لا يلمسها سوى الصمت.