بقلم د/ نيفين فارس
متخصص في العلوم الانسانيه وخبير اتيكيت وبروتوكول
في زمنٍ أصبحت فيه الأقوال أسرع من الأفعال، والكلمات أكثر من المعاني، صرنا نظن أن الحقيقة تُقال هكذا ببساطة، تُعلن على الملأ، وتُستقبل كما هي. لكن الحقيقة شيء آخر تمامًا؛ الحقيقة لا تُقال... بل تُكتشف.
الحقيقة كجوهرة دفينة لا تراها بالعين المجردة، تحتاج إلى منقب صبور، وباحث نزيه، وعقل حر لم تلوثه الميول، ولا تغلبه الأهواء. الحقيقة ليست جملة يرددها الناس، ولا منشورًا يتصدر مواقع التواصل، وليست رأيًا يُفرض أو يُساق في سياق الدفاع أو الهجوم، بل هي طريق طويل من الشك والتمحيص، ومحاولة مستمرة لتجريد الأمور من الزيف.
كثيرون يدّعون امتلاك الحقيقة، لكن القليل فقط هم من يسعون لاكتشافها. لأن في طريق الحقيقة ألمًا، ومواجهة، وتعرية للذات والمجتمع، وفي بعض الأحيان، تكون الحقيقة موجعة حدّ الصمت.
الحقيقة تحتاج شجاعة... شجاعة أن تبحث عنها في العمق، لا في السطح. شجاعة أن تتحمل نتائجها، حتى وإن خالفت ما نشأت عليه، أو اصطدمت مع ما تعودت أن تصدقه. تحتاج إلى إنسان لا يبحث عن انتصارٍ لحجته، بل عن ضوءٍ للعقل.
نحن نعيش اليوم في عالم مزدحم بـ "أنصاف الحقائق"، وهي أخطر من الأكاذيب. لأنها تُخدر العقول، وتُسكن الضمائر، وتمنحك وهم المعرفة، دون أن تُعطيك جوهرها.
ولذا، فمسؤولية الوصول للحقيقة لا تقع على من يقولها فقط، بل على من يسمعها أيضًا. اسأل، دقق، قارن، لا تأخذ الأمور من ظاهرها. فالحقيقة في كثير من الأحيان، لا تُقال على لسان، بل تُستنتج من سياق، وتُفهم من خلف السطور، وتُستكشف بالنية الصادقة للمعرفة.
إنّ من أسوأ ما يمكن أن نفعله بأنفسنا أن نُسلم عقولنا لمن "يدّعي" امتلاك الحقيقة، دون أن نتكبد عناء البحث بأنفسنا. الحقيقة لا تأتيك على طبق من ذهب، بل تُنتزع انتزاعًا، وتُبنى لبنةً لبنةً.
الحقيقة لا تُقال... ولكنها تُكتشف.
الحقيقة مش دايمًا صوت عالي... أوقات بتكون همسة في الضمير أو علامة في الطريق. اللي بيدور على الحقيقة مش بيسمع بس، بيفكر، وبيسأل، وبيستكشف.