حسين السمنودي
في زحمة الحياة وتراكم الهموم وتوالي الضربات، يشعر الإنسان كأنه عالق في بحر هائج بلا شط، وأن كل شراع يرفعه تتكسر أعمدته قبل أن يُبحر، وكل نجمة يهتدي بها تغيب فجأة خلف سحابٍ ثقيل من الأحزان. في تلك اللحظات، لا يبحث الإنسان عن المال، ولا عن منصب، ولا عن متعة زائلة، بل يبحث فقط عن شيء واحد... السكينة. تلك التي لا تُشترى، ولا تُستعار، بل تُولد في داخل القلب حين يهدأ، وتطمئن النفس حين تسكن، ويصير الكون كله وإن ضجَّ، لا يزعزع نقطة ماء في داخلك.
السكينة ليست رفاهية، بل ضرورة. لا تأتي فقط لمن لا يعاني، بل يحتاجها من تتقاذفه أمواج القلق، وتخنقه غصة الحزن، ويحاصره وجع الانتظار. من لم يبكِ ليلًا من ضيق قلبه، ومن لم يسند روحه على جدارٍ من الوحدة، قد لا يدرك معنى أن تهفو النفس إلى لحظة راحة، لا لأن الحياة أصبحت أسهل، بل لأن القلب اختار أن يتوقف عن الصراخ.
كم مرة سألنا أنفسنا: متى نُريح هذا القلب المتعب؟ متى نُطفئ نيران الخوف من الغد؟ متى نُخفض صوت التفكير الذي لا يهدأ؟ متى نُغلق النوافذ المفتوحة في الذاكرة والتي يدخل منها البرد كلما ظننا أننا تعافينا؟ من المؤلم أن يعيش الإنسان العمر كله يطارد أحلامًا تهرب منه، ويُجاهد لأجل أناس لا يشعرون، ويُقاتل في معارك لا يعلم لماذا دخلها. والأشدّ مرارة أن يفقد نفسه في الطريق دون أن ينتبه.
ميناء السكينة ليس مكانًا نهرب إليه، بل هو قرار نُعلن فيه هدنة مع الحياة، ونقول فيه: كفى. كفى جريًا وراء ما لا يأتِ، كفى عنادًا مع أقدارٍ قد كُتبت، كفى تحمّلًا أكثر من اللازم، كفى إقناعًا للناس أننا بخير، ونحن في الحقيقة نحمل جبالًا من الألم ولا نشتكي. نحتاج أن نتعلم كيف نُخفض أوزان أرواحنا، كيف نرتب فوضى مشاعرنا، كيف نغلق الباب على بعض الذكريات دون شعور بالذنب، كيف نمضي دون أن نحمل معنا كل الخيبات التي مررنا بها.
السكينة لا تعني أن الحياة مثالية، ولا أن الطريق بلا مطبات، بل هي حالة من التصالح الداخلي، أن نرضى عن أنفسنا رغم عيوبها، وأن نرضى عن قدرنا رغم أوجاعه، وأن نحمد الله لا حين تتحقق أحلامنا، بل حين تُغلق في وجوهنا الأبواب، ونعلم في قرارة أنفسنا أن ما عند الله خير وأبقى. إننا لا نحتاج أن نُخفي تعبنا لنُرضي من حولنا، ولا نحتاج أن نُثبت قوتنا في كل لحظة، فالبشر ليسوا آلهة، والقلوب لا تتحمل فوق طاقتها، والمشاعر إذا كُتمت أكثر مما يجب، تنفجر.
من الجميل أن نبكي، لا ضعفًا، بل تطهيرًا. من الجميل أن نختلي بأنفسنا، لا هروبًا، بل تأملًا. من الجميل أن نقول "لا" أحيانًا، لا رفضًا للعطاء، بل حفاظًا على النفس. ومن الجميل أن نترك ما يؤذينا، حتى لو كان ما نحب. ليست السكينة في كثرة الأصدقاء، بل في صديق واحد لا يخذلك. ليست في امتلاك الدنيا، بل في أن لا تمتلكك الدنيا. ليست في العزلة فقط، بل في من يمنحك وجوده راحة، ومن لا يُرهقك قربه.
وما أعظم السكينة حين تكون في حضرة الله. حين تدعو وأنت تبكي، وتعلم أن هناك من يسمعك دون أن تقُل شيئًا. حين تُصلي والكون كله من خلفك يذوب، ولا يبقى إلا أنت وسجادتك وربّك. حين تقول: "يا رب، أنت تعلم وأنا لا أعلم، فارزقني الرضا"، فيطمئن قلبك ولو أن كل أبواب الأرض مغلقة. هناك، في تلك اللحظة، يذوب كل تعبك، ويهدأ كل خوفك، وتُشفى روحك، ولو ما زالت الجراح في الجسد.
وإذا أردت أن تجد ميناء السكينة، فابحث عنه في عيني أمك حين تخشى عليك من البرد، في دعوة أبيك وهو يسندك بصمت، في حضنٍ صادق لا يريد منك شيئًا، في القرآن حين يهمس لقلبك أن الطمأنينة ليست بعيدة. السكينة ليست غياب الألم، بل حضور القوة، ليست في أن تُضحك الجميع، بل في أن تضحك من قلبك مرة دون خوف. هي أن تستيقظ وتقول: اليوم سأُحب نفسي، وأُسامحها، وأُهدهد قلبها، وسأمشي على الأرض بخفة من لا يحمل فوقه كل هموم الكون.
ميناء السكينة... هو أن تدرك أنك عابر، وأن كل شيء سيمضي، كل حزن، كل هم، كل صدمة. وأن الأهم من كل ذلك، ألا تفقد نفسك وأنت تحاول النجاة. كن رفيقًا بها، تمهّل، وقل لنفسك: "أنا أستحق السكينة، أنا أستحق الحياة، حتى وإن كانت موجعة".
فما الحياة إلا بحر، وميناء السكينة فيه… هو أنت.