حسين السمنودي
يخاطبنا الله عز وجل في كتابه الكريم بلغة تفيض رحمةً ومغفرةً وأملاً، وكأنه يربت على قلوبنا المتعبة التي أثقلتها الذنوب والآثام، فيقول جل شأنه: "وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ" [الكهف: 58]، ليخبرنا أن رحمته وسعت كل شيء، وأن مغفرته تسبق غضبه، وأنه سبحانه لا يرد تائباً ولا يخذل من طرق بابه نادماً.
كم من إنسان ضل الطريق وتاه في دروب المعصية والذنوب، فظن أن لا عودة له، وأن أبواب السماء قد أغلقت دونه، فإذا بهذا النداء الإلهي ينساب كالماء الرقراق في صحراء اليأس، ليقول له: عد، فالله أرحم بك من أمك، الله لا ييأس من عباده، ولا ييئسهم من رحمته.
أجل، حتى وإن زنا العبد أو سرق أو أتى الكبائر، فإن رحمة الله لا تزال أوسع من ذنوبه، وباب التوبة لا يزال مفتوحًا ما لم تغرغر الروح. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ" [رواه مسلم]. وقال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا" [الزمر: 53].
وهكذا يعلمنا الإسلام أن الرحمة ليست استثناءً بل هي القاعدة، والمغفرة ليست شيئًا نادرًا بل هي الأصل، لأننا نعبد ربًا وصف نفسه بـ"الغفور" و"الرحيم" و"العفو" و"الحليم"، لم يصف نفسه بالمنتقم والجبار إلا في مقام من حارب الدين، أما من عاد وتاب ودمعت عينه ندمًا، فقد نال من الله عناقًا روحيًا لا تدركه الأبصار، بل تحسه الأرواح الطاهرة التي عادت من جديد.
وقد ورد في الأثر أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي". إنه الله الذي يتجاوز، ويسامح، ويأخذ بيد عباده رغم خطاياهم، ولا يكلّ ولا يملّ من العفو، حتى نملّ نحن من العودة إليه!
إن هذا المفهوم الرباني العظيم ينبغي أن يزرع في القلوب قبل العقول، ليصبح طوق نجاة لكل غارق في الذنب، ولكل مهموم بالخطيئة، فيعلم أن الله لا ينظر إلى ماضينا، بل إلى قلوبنا الآن، وإلى صدق توبتنا في هذه اللحظة.
في وقت تمتلئ فيه القلوب بالقسوة، والعيون بالجفاف، والنفوس بالضياع، لا بد أن نُذَكّر بعضنا بأن هناك ربًا يغفر الذنوب، ويحب العائدين، ويحنّ إلى عباده التائبين. فلا مكان لليأس في قاموس المؤمن، ولا مجال للقنوط من رحمة الله، لأن رحمته غمرت السماوات والأرض، وقد قال عز وجل: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" [الأعراف: 156].
وختاما لذلك نقول ...يا أيها العبد العائد، لا تنظر خلفك كثيرًا، فهناك رب يناديك من عليائه: "ارجع إلي، فأنا الغفور ذو الرحمة"، يمحو ذنوبك، ويطهرك، ويجعلك من المحبوبين، لا من المطرودين. فامضِ إلى الله بقلب منكسر، وعين باكية، ويدٍ مرتجفة، وسترى العجب من كرم رب كريم، لا يُقنِط عبدًا ولا يردّ سائلاً، بل يفتح له بابًا لا يُغلق أبدًا ما دامت فيه حياة.
فالسلام على من عاد إلى الله، والسلام على من ندم، والسلام على القلوب التي عرفت أن الطريق لا يُغلق أبدًا، ما دام "وربك الغفور ذو الرحمة".