بقلم: حسام الشبراوي
ما أكثر الذين يتحركون بيننا، يملأون الشوارع والبيوت والمجالس، ولكنهم أموات… أموات بلا جنازات، بلا وداع، بلا نعوش. لا يُبكَى عليهم، لأنهم لم يرحلوا بأجسادهم، بل رحلت أرواحهم خلسة، وغابت مع أول خيبة، أو أول ألم، أو أول حلم تهاوى.
الحياة لم تكن يومًا مجرد طعام وشراب واستيقاظ ونوم. لم تكن أبدًا أن تعيش على الهامش، بلا هدف، بلا شغف، بلا انتظار. أن تمارس الروتين وكأنك آلة، وتضحك مجاملة، وتتحرك لأنك مُجبر، لا لأنك راغب… تلك ليست حياة، بل نسخة باهتة من الوجود، كأنك صورة باهتة لشخصٍ لم يعد يشبهك.
أن تمشي في زحام لا أحد فيه يراك، أن تتحدث ولا أحد يصغي، أن تبكي ولا يشعر بك أحد، أن تكون وسط أهلك وأقاربك وأصدقائك، لكنك تشعر أنك لا تنتمي… هذا هو القبر الحقيقي، لكن فوق الأرض.
كم من امرأة تنام كل ليلة على وسادة غارقة في الدموع، لا يشكو أحد من وجعها لأنها لا تُرى؟ كم من رجل يُطيل الصمت لأنه تعب من الشرح، وتآكل من الداخل، ولا يريد أن يبدو ضعيفًا؟ كم من شاب فقد شغفه بالحياة لأنه لم يجد فرصة، ولا كلمة دعم، ولا يدًا تسنده؟ كم من أمٍ تخفي حزنها خلف ابتسامة، وكم من أبٍ يتهالك بصمت كي لا يشعر أولاده بعجزه؟
الحياة ليست سهلة… بل مؤلمة حدّ الموت البطيء. تعطي البعض كل شيء وتترك آخرين في الظل. تسعد من لا يقدّر، وتنسى من يستحق. تضحك للظالم، وتُرهق المظلوم، وكأنها تختبر صبره على مدار العمر.
لكن وسط كل هذا الظلام، هناك بارقة لا يراها إلا من تمسّك بنفسه. الحياة، برغم قسوتها، تمنحنا شيئًا صغيرًا نحيا به: الأمل. نعم، قد لا نحقق كل ما نتمنى، وقد نُخذل، ونُكسَر، ونُهزم، لكن مجرد وجود أمنية في القلب، وسعي في الطريق، هو ما يُبقي شعلة الحياة مشتعلة.
أن تكون حيًّا، هو أن تتمسك بهذا الأمل، أن ترفض أن تنطفئ، حتى إن انطفأت الدنيا من حولك. أن تقول لنفسك: أنا موجود، أنا أتنفس رغم الألم، أنا أسعى رغم انكساري، أنا أحب رغم الخذلان، أنا أحن رغم الجفاء، أنا أشعر رغم أن العالم صار بلا قلب.
أنا وحيد، نعم، لكني مع نفسي عائلة من الدفء. أنا موجوع، لكنني لا أزيف ابتسامتي. أنا خائف، لكني لا أهرب. أنا فقير، لكن لدي حلم لا يُشترى. أنا مرهق، لكنني لا أستسلم. أنا حر… رغم كل القيود.
وفي نهاية الطريق، ستظل الحقيقة موجعة: لسنا جميعًا أحياء، حتى لو كنا نتنفس. البعض مات منذ زمن، حين فقد إيمانه بالحياة. البعض لا يزال يقاوم، يتنفس تحت الأنقاض، ينتظر معجزة، أو لمسة حنان، أو حتى كلمة صادقة تقول له: أنت لست وحدك.
أما أنا… فأكتب لأنني لا أجد من يسمعني. أبكي لأنني لا أجد من يحتويني. أمشي لأن التوقف موت. أتنفس لأنني ما زلت أُجاهد كي أكون حيًّا، رغم أن كل شيء من حولي يصرخ بي: لقد انتهيت.
نعم…
أنا حيّ… لكن الحياة تؤلمني.