recent
أخبار ساخنة

من غرناطة إلى غزة.. التاريخ لا يرحم الغافلين/شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS
من غرناطة إلى غزة.. التاريخ لا يرحم الغافلين


 حسين السمنودي

في زاوية مظلمة من تاريخ الأمة الإسلامية، تقف الأندلس شاهدًا على واحدة من أفظع المآسي التي طالت المسلمين، مأساة لم تبدأ بسقوط غرناطة سنة 1492م، بل بدأت يوم ظن المسلمون أن الحضارة تخلّد من يشيّد القصور ويغرق في الترف، ويهمل اليقظة والاتحاد والعدالة. وما أشبه مشهد الأمس في الأندلس بما نراه اليوم في فلسطين، حيث تتكرر المأساة بأبشع صورها، وكأن التاريخ قرر أن يفضح غفلتنا، لا ليُسقِطنا مرة أخرى، بل ليكشف أننا لم نتعلم من سقوطنا الأول.

عندما دخل طارق بن زياد الأندلس سنة 711م، لم يكن يحمل فقط سيفًا في يمينه، بل كان يحمل في قلبه روحًا حضارية أرادت أن تنقل العالم من الجهل إلى النور. وعلى مدار ثمانية قرون، بنى المسلمون حضارة متكاملة، امتدت من قرطبة إلى غرناطة، ومن طليطلة إلى إشبيلية. أنشأوا المدارس والمكتبات والمراصد، ونشروا العلم والطب والفلسفة والهندسة، وتعايشوا مع غيرهم من الديانات السماوية في ظل دولة ضمنت حرية العقيدة وكرامة الإنسان، حتى غدت قرطبة وحدها تحوي أكثر من 70 مكتبة عامة، وبلغت مكتبة الحكم المستنصر ما يزيد عن 400 ألف كتاب، في وقت كانت فيه عواصم أوروبا تجهل حتى القراءة والكتابة.

لكن رغم هذا المجد الظاهري، كانت بذور الفناء تنمو في الجذور. بعد تفكك الدولة الأموية في الأندلس إلى دويلات الطوائف، بدأت كل إمارة تتصارع مع الأخرى، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التحالف مع ملوك قشتالة ضد إخوانهم المسلمين طمعًا في سلطان مؤقت. وهكذا، بيدٍ خانت، وسيفٍ خمد، ودينٍ أُضعف، بدأت الحواضر الإسلامية تتهاوى واحدة تلو الأخرى. فسقطت طليطلة عام 1085م، ثم بلنسية، ثم قرطبة، ثم إشبيلية، إلى أن حُوصرت غرناطة طيلة عشر سنوات انتهت بتسليمها سنة 1492م، بعد اتفاقية مذلة وقعها أبو عبد الله الصغير، آخر ملوك بني الأحمر، واعدًا أن تحفظ للناس دينهم وأموالهم وحياتهم.

لكن النكث كان قدرًا معلومًا في عهود الطغاة. فما إن دخل الإسبان غرناطة حتى انقلبت الصورة. بدأ التهجير القسري، ثم التنصير، ثم حُظرت اللغة العربية، وأُحرقت كتب الفقه والتاريخ والشعر، وأُجبر الأطفال على دخول الكنائس، وظهرت محاكم التفتيش التي مارست تعذيبًا ممنهجًا لكل من تشك في تمسكه بالإسلام. ثم جاء القرار بطرد "الموريسكيين" نهائيًا من الأندلس، بين عامي 1609 و1614، فخرج مئات الآلاف في صمت ودموع، يجرّون خلفهم ذاكرة المجد والدم، تاركين وراءهم حضارة دفنها الجهل والحقد والخذلان.

واليوم، وعلى مرمى حجر من وجداننا، تعيش فلسطين المشهد ذاته، وكأن الزمان يعيد نفسه بطريقة أشد قسوة. غزة، المحاصرة، المكلومة، المنكوبة، صارت غرناطة الجديدة. تُقصف البيوت فوق رؤوس الأطفال، تُستهدف المستشفيات والملاجئ والمدارس، ويُمنع الغذاء والدواء، ويُمارس الإبادة في وضح النهار، وسط صمت دولي، وتواطؤ عربي، وانقسام فلسطيني، وتخاذل أممي، بل وتزييف إعلامي يشيطن الضحية ويمنح المجرم شرعية القتل.

إن ما نراه في غزة ليس حربًا بين قوتين، بل تطهيرًا عرقيًا موصوفًا، شبيهًا بما حدث في الأندلس، حين كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر وجود المسلمين نجاسة روحية يجب إزالتها. اليوم يتكرر ذات المنطق، لكن بأدوات مختلفة. الاحتلال الصهيوني لم يعد يخجل من إعلانه أن الهدف هو "تفريغ غزة" من سكانها، كما قال وزراؤه مرارًا، تمامًا كما أُفرغت الأندلس من أهلها ذات يوم. الفرق الوحيد أن العالم الذي شهد على مأساة الأندلس صامت، بينما العالم الذي يشهد على مجازر فلسطين اليوم، يشارك فيها، إما بسلاح، أو بتمويل، أو بسكوت.

والمأساة الأشد ألمًا أن حال المسلمين لم يتغير كثيرًا. كما اختلفت دويلات الطوائف في الأندلس، يختلف اليوم أصحاب القرار في الأمة، وكل منهم مشغول بحدوده ومصالحه وتحالفاته، في مشهد يعكس انفصامًا حادًا عن روح الإسلام الأولى. والشارع العربي، رغم غضبه ووعيه، ما يزال مكبلًا بسلاسل الإعلام الموجه أو الأنظمة الخائفة من الهبة الجماعية. أما المؤسسات الدينية الكبرى، التي كان يجب أن تقود حركة التنوير والمواجهة، فهي في كثير من الأحيان متأخرة أو مكبلة أو مستأنسة.

لكن من رحم الألم، يولد الرجاء. فكما أعاد صلاح الدين القدس بعد 88 عامًا من الاحتلال الصليبي، وكما نهضت شعوب تحت الاحتلال وحطمت أغلالها، فإن فلسطين لن تُترك وحيدة. الأمة الإسلامية، رغم ما فيها من ضعف، ما تزال تحتفظ بوعي شعبي لا يُستهان به، وبجيل جديد يرى في المقاومة شرفًا، وفي فلسطين عقيدة لا مساومة عليها. وإن كانت الأندلس قد ضاعت حين نُسيت، فإن فلسطين ستبقى حية ما دام اسمها في القلوب وعلى الألسن، وما دام طفل صغير في غزة يقف وسط الركام ويهتف "لن نرحل".

التاريخ لا يرحم الغافلين، لكنه يُنصف المستيقظين. ولو كُتب لنا أن نُهزم اليوم، فلا أقل من أن نُهزم واقفين، وأعيننا إلى السماء، وقلوبنا متشبثة بالحق، حتى يشهد من بعدنا أننا لم نبع، ولم نخن، ولم ننس. فليكن في مأساة الأندلس عبرة، وفي دماء غزة وقودًا، حتى تستفيق الأمة، أو على الأقل، لا تسقط بلا شرف كما سقط بعضهم في الماضي. لقد ضاعت غرناطة حين سكت صوت الأذان، وانهارت القلاع، وبقيت القلوب فارغة إلا من الخوف، فهل نكرر الخطأ نفسه؟ أم نكتب فصلاً جديدًا يُقال فيه: "لقد كانت غزة بداية نهضة لا نهاية مأساة"؟
google-playkhamsatmostaqltradent