د/حسين السمنودي
كيف يكتب المرء عن فقْد الروح التي سارت بجواره يومًا بيوم، وعاشت معه تفاصيل الحياة بكل ما فيها من فرح وحزن، ألم وأمل؟ كيف للقلب أن يتحمل وجع الفقد حين يكون الراحل جزءًا من الذكريات، من الضحكات التي ترددت في الطرقات، من الأحاديث التي امتدت حتى الفجر، من الأيام التي لم يكن فيها سوانا، نشق طريقنا وسط الحياة، لا نعرف أن القدر كان يعد لنا هذا الوداع المؤلم؟
رحل صديقي، الشيخ سيد عمارة محمد، العالم الأزهري الجليل، أخي الذي لم تلده أمي، ورفيق دربي في كل لحظة منذ كنا صغارًا، نبحث عن مكان لنا في أروقة الأزهر الشريف، نتعلم، نحلم، نخطط للمستقبل، نؤمن أن الحياة ستكون كريمة بنا، ما دمنا نحمل النية الصادقة، والقلب الطيب، والعقل المتعطش للعلم. لم يكن سيد مجرد زميل دراسة، بل كان الأخ الذي احتواني كما احتويته، كان الحائط الذي أسند عليه ضعفي، وكان القوة التي تدفعني للأمام حين تثقلني هموم الأيام.
جمعتنا مقاعد الدراسة، وكنا نتقاسم الكتب كما نتقاسم الرغيف، يسبقني بفهمه العميق للأحكام والفقه، فأجد في شرحه نورًا لما عجزت عن فهمه، وأسبقه أحيانًا في بعض الفروع، فيبادلني الامتنان بودٍّ صافٍ لا تشوبه غيرة ولا تكلف. كبرنا معًا، وحين نادى الوطن، ذهبنا إلى التجنيد سويًا، هناك عرفنا قسوة الأيام، شدة التدريب، وعناء السهر، كنا نعبر ليالي البرد القارس بالكلمات التي تشد من أزرنا، بالأحاديث التي تخفف وطأة التعب، بالأمل في أن هذه الأيام ستمر، وسنبقى كما كنا، أخوين لا يفرقهما شيء.
وحين انتهت تلك المرحلة، حملتنا الأقدار إلى العمل في وزارة الأوقاف، نكمل رسالتنا، نعلم الناس، نبث فيهم الوعي الديني الصحيح، نحاول أن نكون كما حلمنا في صغرنا: دعاة للخير، سراجًا لمن يبحث عن نور، نزرع الكلمة الطيبة في القلوب، ونحاول أن نكون امتدادًا لمن سبقونا من العلماء الأجلاء.
لكن لم يخبرنا أحد أن الحياة، مهما طالت، لا تمنحنا الأحبة إلى الأبد. لم يخبرنا أحد أن الضحكات التي عشناها يومًا ستتحول إلى ذكريات موجعة، وأن الأحاديث التي امتدت بيننا ستنقطع فجأة، بلا مقدمات.
كانت آخر مكالمة بيننا قاسية على قلبي، وكأنني شعرت بأنها الوداع الأخير، لكنني لم أرد أن أصدق. جاءني صوته واهنًا، ضعيفًا على غير العادة، كأنه يحمل ثقل العالم فوق صدره، قال لي: "إني على سرير الموت... فادعُ لي." كيف استوعب عقلي هذه الكلمات؟ كيف لحبيب الروح أن يودعني بهذه البساطة؟ حاولت أن أتمسك بالأمل، أن أقول له: "ستقوم، ستكون بخير، لا تقل هذا الكلام." لكنني شعرت أن كلماتي كانت زائفة، وأنه يعلم أكثر مني أن الرحلة قد انتهت.
رحل سيد، وترك خلفه فراغًا لا يمتلئ، لم يعد هناك من ينتظرني عند باب المسجد بعد الصلاة ليخبرني عن فكرة جديدة لمحاضرة، لم يعد هناك من يشاركني الحديث عن الكتب التي كنا نقرأها سويًا، ولا من يتصل بي في المساء ليحكي عن يومه ويضحك من أمور صغيرة لا يضحك لها أحد سوانا.
اليوم، أسير في الطرقات التي سرناها معًا، أبحث عن صوته بين الضجيج، أبحث عن ظله في الأماكن التي اعتدنا الجلوس فيها، لكن لا شيء سوى الصمت. حتى الأماكن تبكي فراقه، حتى الأيام تبدو باهتة بلا وجوده.
أيها الراحل العزيز، لم تكن مجرد صديق، كنت أخًا في الله، ورفيقًا في الحياة، ونورًا في أيامي. أدعو لك كما طلبت، لكن قلبي لم يتقبل رحيلك بعد، ولن يتقبله أبدًا. كم هو مؤلم أن نفقد الأحبة، وكم هو موجع أن تظل أرواحهم معلقة بنا، نبحث عنها في كل زوايا الحياة، ولا نجدها إلا في الذاكرة التي تحرق القلب شوقًا وألمًا.
وداعًا يا صديقي، إلى أن نلتقي، في دار لا فراق فيها ولا وداع.