recent
أخبار ساخنة

الرقي في الحوار انعكاس لعظمة التربية والأخلاق /شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS
الصفحة الرئيسية
الرقي في الحوار انعكاس لعظمة التربية والأخلاق

حسين السمنودي 

الكلمات هي مرآة الإنسان، تعكس أخلاقه وتربيته، وتحدد الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليه. فالحوار الراقي ليس مجرد أسلوب في الحديث، بل هو انعكاس لمنظومة القيم والمبادئ التي نشأ عليها الإنسان. فحينما يكون الفرد لبقًا في كلامه، محترمًا في نقاشاته، مؤدبًا في ردوده، فهو بذلك يقدم صورة مشرفة عن نفسه، وأسرته، ومجتمعه. إن من نشأ على الأخلاق الرفيعة لا يمكن أن يكون حديثه خشنًا، أو كلماته جارحة، بل يتحلى دائمًا بالهدوء، والاتزان، والاحترام حتى في أصعب المواقف وأشدها توترًا.

لقد أمرنا الإسلام بالتحلي بأدب الحوار، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: 83)، وهو توجيه إلهي بانتقاء أرقى الألفاظ عند الحديث مع الآخرين. كما أن النبي موسى عليه السلام عندما أُمر بمخاطبة فرعون، الذي كان من أعتى الطغاة، جاء الأمر الإلهي واضحًا في قوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ (طه: 44)، وهذا درس عظيم في ضرورة التزام اللين والهدوء حتى عند الحديث مع أشد الناس قسوة وجبروتًا. فإذا كان الله قد أمر موسى وهارون باللين مع فرعون، فكيف يكون حديث الإنسان مع أهله، وأصدقائه، وأبناء مجتمعه؟

وفي السنة النبوية نجد العديد من الأحاديث التي تؤكد على أهمية التزام الرقي في الحديث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء" (رواه الترمذي). وهذا الحديث يضع لنا معيارًا واضحًا للتفرقة بين المؤمن الحق، ومن اعتاد على استخدام الألفاظ الجارحة والسيئة. فاللسان قد يكون سببًا في رفع مكانة الإنسان بين الناس، وقد يكون سببًا في سقوطه من أعينهم.

الرقي في الحوار لا يعني ضعف الشخصية أو التنازل عن الحقوق، بل هو قمة القوة والسيطرة على النفس، فمن يستطيع أن يتحكم في كلماته وأسلوبه في أصعب المواقف، هو بلا شك شخص قوي قادر على ضبط انفعالاته. أما الشخص الذي يلجأ إلى الصراخ، والشتائم، والأسلوب الجارح عند النقاش، فإنه يعبر عن ضعفه وعجزه عن إيصال فكرته بطريقة محترمة. ومن سمات الإنسان الراقي في حواره أنه يستمع أكثر مما يتحدث، ويعطي الفرصة للآخرين للتعبير عن آرائهم دون مقاطعة أو استهزاء، كما أنه لا يرفع صوته، ولا يبالغ في ردود أفعاله، بل يكون حديثه متزنًا وعقلانيًا، حتى عند مناقشة القضايا الخلافية.

لقد أصبحت الحاجة إلى الحوار الراقي اليوم أكثر من أي وقت مضى، في ظل انتشار ثقافة الجدل العقيم، والمشاحنات، والاتهامات المتبادلة، سواء في اللقاءات المباشرة أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فكثيرًا ما تتحول النقاشات إلى ساحة للجدال العقيم، الذي لا يسعى فيه أحد إلى الفهم أو الوصول إلى الحقيقة، بل إلى إثبات وجهة نظره فقط بأي طريقة، حتى ولو كان ذلك بالاستهزاء والسخرية من الآخرين. وهذا ما حذرنا منه الإسلام، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا" (رواه أبو داود). والمراء هو الجدل الذي لا فائدة منه سوى إثارة النزاع والخلاف.

كما أن الإنسان الراقي في حواره يبتعد عن الكلمات الجارحة، والألفاظ القاسية، بل يكون حديثه مفعمًا بالكلمات الطيبة، التي تؤلف بين القلوب، وتطفئ نار الخلاف. فالكلمة الطيبة لها أثر السحر في النفوس، وقد شبهها الله تعالى بالشجرة الطيبة التي تؤتي ثمارها في كل وقت، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم: 24).

إن الإنسان الذي يتحلى بالرقي في حديثه ينشر الطمأنينة والراحة في كل مكان يذهب إليه، فهو شخص محبوب، يحترمه الجميع، ويشعرون بالراحة في الحديث معه، على عكس الشخص الذي اعتاد على استخدام الكلمات القاسية والساخرة، فهو غالبًا ما يكون منبوذًا، ويتجنبه الناس حتى لا يدخلوا معه في نقاشات غير مجدية. ولعل أفضل مثال على ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان حديثه هادئًا، وكلماته لطيفة، فلم يكن فاحشًا ولا بذيئًا، بل كان أرقى الناس في خطابه، حتى مع أعدائه.

إن الرقي في الحوار ليس مجرد مهارة يمكن اكتسابها، بل هو انعكاس لتربية عظيمة، وغرس قيم أصيلة منذ الصغر، فإذا نشأ الإنسان في بيئة تحترم الآخرين، وتقدر آراءهم، وتعتمد على النقاش الهادئ والبنّاء، فإنه حتمًا سيكون شخصًا لبقًا في حديثه، راقيًا في أسلوبه، محاورًا محترمًا يستمع قبل أن يتحدث، ويناقش دون أن يجرح، ويرد دون أن يسيء.
google-playkhamsatmostaqltradent