حسين السمنودي
كانت لحظة وفاة النبي محمد ﷺ أعظم مصاب حلَّ بالمسلمين في تاريخهم، إذ لم تكن مجرد وفاة زعيم أو قائد، بل كانت زلزلة عصفت بكيان الأمة الفتية، حتى أن بعض الصحابة لم يصدقوا الخبر أو كادوا ينكروه. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حالة غضب وإنكار، يهدد كل من يقول إن النبي ﷺ قد مات، مؤكدًا أنه لم يمت، بل ذهب إلى ربه كما ذهب موسى عليه السلام، وسيعود ليقطع أيدي وأرجل المنافقين. أما الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فكان الأكثر إدراكًا للواقع، فدخل على النبي ﷺ، وقبَّله وقال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيًا وميتًا"، ثم خرج إلى المسجد حيث كان الناس في حالة من الذهول، فوقف وقال كلماته التي خلدها التاريخ: "أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". ثم تلا قول الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ (آل عمران: 144). كانت هذه الكلمات كالصاعقة التي أعادت الجميع إلى رشدهم، وبدأوا يستوعبون الحقيقة.
لكن لم تكن الصدمة داخل المدينة المنورة وحدها، بل امتدت خارجها، حيث كان الكفار والمنافقون واليهود والمنتفعون من الوضع السياسي يترقبون هذه اللحظة منذ سنوات، وكانوا يأملون أن تكون هذه هي نهاية الإسلام. بدأ المنافقون الذين كانوا يعيشون في المدينة يهمسون: "لو كان نبيًا حقًا لما مات"، وبدأوا في محاولة زرع الشكوك داخل قلوب المسلمين الجدد. أما اليهود، الذين أظهروا الولاء خلال السنوات الماضية بعد صلح الحديبية، فقد كانوا يخططون لاستغلال الفرصة والانقضاض على المسلمين. أما القبائل التي لم تكن إسلامها ثابتًا، فقد رأت في وفاة النبي ﷺ فرصة للارتداد، فظهرت موجة من الردة في أنحاء الجزيرة العربية.
أما داخل المدينة، فقد كان المشهد متوترًا، حيث اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة لمناقشة أمر الخلافة، إذ بدأ الأنصار يتداولون فكرة أن تكون القيادة لهم، بينما رأى المهاجرون أن الأمر يحتاج إلى شخصية قوية تجمع الأمة، ولم يكن هناك من هو أكثر أهلية من أبي بكر الصديق رضي الله عنه. لكن هذا لم يمر دون أن يحاول المنافقون إثارة الفتن، إذ كانوا يطمحون إلى نشر الفرقة بين المسلمين حتى لا تقوم لهم قائمة. لكن حكمة الصحابة غلبت، وبويع أبو بكر خليفةً، واستقرت الدولة، رغم كل ما كان يحاك في الخفاء.
بعد وفاة النبي ﷺ مباشرة، تحركت قوى الشر في الجزيرة العربية، فبدأت القبائل التي دخلت الإسلام حديثًا في التمرد، مدفوعة بمؤامرات المنافقين وتحريض اليهود، وظهر في اليمن والأسود العنسي مدعيًا النبوة، وفي اليمامة ادعى مسيلمة الكذاب أنه شريك النبي في الوحي، ووجد تأييدًا من بعض القبائل الطامعة في الاستقلال عن سلطة المدينة. أما في الشمال، فقد بدأ الروم يترقبون فرصة الانقضاض، وكانوا يخططون لمهاجمة حدود الدولة الإسلامية.
لكن الصديق أبا بكر رضي الله عنه كان على قدر المسؤولية، فلم يسمح لهذه المؤامرات أن تنجح، بل اتخذ قرارات حاسمة أعادت للدولة الإسلامية هيبتها، فقرر أولًا تنفيذ وصية النبي ﷺ بإرسال جيش أسامة بن زيد، رغم أن بعض الصحابة رأوا تأجيل ذلك نظرًا للظروف الصعبة، لكن أبا بكر قال كلمته الشهيرة: "والله، لا أحل عقدة عقدها رسول الله"، وبالفعل، خرج الجيش وأثبت للمنافقين واليهود أن المسلمين لم يضعفوا رغم وفاة قائدهم.
ثم واجه أبو بكر أخطر أزمة في تاريخ الإسلام المبكر، وهي حروب الردة، حيث أرسل الجيوش إلى مختلف أنحاء الجزيرة العربية، وقاتل القبائل المتمردة، وأعادها إلى الإسلام، وكان أبرز هذه المعارك معركة اليمامة التي قضت على فتنة مسيلمة الكذاب. وبفضل هذه الحملات، استعاد المسلمون السيطرة على الجزيرة العربية، وأدرك الجميع أن الإسلام لم يكن مربوطًا بحياة النبي ﷺ، بل هو دين خالد إلى يوم القيامة.
أما اليهود، فقد حاولوا تحريض بعض القبائل على إثارة القلاقل، لكن المسلمين كانوا على يقظة تامة، فتم تحجيم نفوذهم، وأُسقطت مخططاتهم، خاصة في خيبر حيث كانت لهم معاقل قوية، لكنهم لم يجرؤوا على المواجهة العلنية بعد الضربات التي تلقوها في عهد النبي ﷺ.
أما الروم والفرس، فقد ظنوا أن وفاة النبي ﷺ ستكون نهاية الدولة الإسلامية، لكنهم فوجئوا بأن المسلمين، بدلًا من التراجع، بدأوا بالتوسع، وكانت أولى المواجهات الكبرى ضد الفرس في العراق، ثم ضد الروم في الشام، فيما عُرف بمعركة اليرموك، والتي فتحت الباب لفتح بلاد الشام بأكملها.
لقد كانت وفاة النبي ﷺ لحظة فارقة في تاريخ الإسلام، فبينما ظن أعداؤه أن الإسلام سينهار بموته، كان المسلمون يثبتون للعالم أن هذا الدين أكبر من أن يكون مرتبطًا بشخص، حتى لو كان أعظم الخلق. لم يكن الأمر سهلًا، فقد كانت المؤامرات تحيط بهم من كل جانب، لكن بفضل الله ثم بفضل صبرهم وثباتهم، استطاعوا تجاوز المحنة وتحويلها إلى نقطة انطلاق جديدة، جعلت الإسلام يمتد من الجزيرة العربية إلى أنحاء العالم.
لقد كانت تلك الأيام العصيبة اختبارًا حقيقيًا لثبات الإيمان، ورغم الحزن الشديد، ورغم الدموع التي لم تتوقف، إلا أن الصحابة أدركوا أن حب النبي ﷺ لا يكون بالبكاء عليه فقط، بل بحمل رسالته، والعمل بها، والجهاد من أجلها. وبهذا الإخلاص، استمر نور الإسلام في الانتشار، حتى صار دينًا يحكم مشارق الأرض ومغاربها، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف: 8).