حسين السمنودي
منذ نكسة 1967، لم يتوقف الحديث عن الأخطاء التي وقع فيها العرب وأدت إلى واحدة من أكبر الهزائم في التاريخ الحديث. ورغم مرور العقود، لا تزال بعض هذه الأخطاء تتكرر اليوم، وكأننا لم نتعلم الدرس جيدًا. أحد أبرز هذه الأخطاء هو الكشف العلني عن القدرات العسكرية، حيث نرى اليوم انتشار فيديوهات تُظهر تدريبات الجيش المصري، أو نقل المعدات العسكرية عبر القطارات، أو استعراض القوات والأسلحة بشكل مفرط، بينما العدو الصهيوني يعمل في صمت تام، دون ضجيج أو استعراض إعلامي.
كيف وقعنا في فخ الدعاية قبل 1967؟
قبل حرب يونيو 1967، كانت الصحف والإذاعات العربية تعج بالأخبار عن قوة الجيوش العربية، وعن استعدادها لسحق "العدو الصهيوني" خلال أيام. بل وصل الأمر إلى حد إعلان سقوط تل أبيب قبل أن تبدأ الحرب! كان الإعلام العربي في ذلك الوقت جزءًا من الحرب النفسية، لكنه كان يوجهها في الاتجاه الخاطئ، حيث خلق شعورًا زائفًا بالثقة، وأعطى العدو فرصة ذهبية لدراسة خططنا وتحركاتنا بدقة.
في المقابل، كان العدو الصهيوني يعمل في سرية تامة، يخطط بدقة، يجمع المعلومات، ويدرس نقاط ضعف خصومه. حتى عندما ضرب أولى ضرباته في صباح 5 يونيو 1967، كانت الجيوش العربية لا تزال تحت تأثير الشعارات، ولم تكن مستعدة للمفاجأة الكبرى. الطائرات المصرية التي كانت مصطفة في المطارات تم تدميرها وهي على الأرض، لأن العدو كان يعرف مواقعها بالضبط، بينما نحن كنا منشغلين بالشعارات الإعلامية والاستعراضات العسكرية.
هل نكرر نفس الأخطاء اليوم؟
اليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الأمر أخطر بكثير. بعض المواطنين ينشرون فيديوهات لتحركات القوات العسكرية، أو تدريبات الجنود، أو حتى بعض التفاصيل الخاصة بالمعدات والأسلحة. ورغم أن هذا قد يكون بدافع الفخر بقوة الجيش، إلا أنه في الحقيقة يعرض الأمن القومي للخطر، لأن العدو يراقب كل شيء، ويدرس كل لقطة، ليستفيد منها في أي مواجهة قادمة.
في المقابل، العدو الصهيوني يدرك جيدًا قيمة المعلومات، ولهذا يتعامل مع قواته وتحركاته بسرية تامة. من النادر أن ترى مقاطع علنية لعمليات الجيش الإسرائيلي إلا بعد انتهاء المهام بوقت طويل، وحتى الفيديوهات التي ينشرونها تكون محسوبة بعناية لأغراض محددة، وليس لمجرد التباهي أو الدعاية العشوائية.
السرية التامة.. كيف صنعت نصر أكتوبر 1973؟
إذا كانت العشوائية الإعلامية والاستعراض الزائد أحد أسباب الهزيمة في 1967، فإن السرية والتخطيط الدقيق كانا من أهم عوامل الانتصار في حرب أكتوبر 1973. لقد تعلمت القيادة المصرية الدرس جيدًا، وأدركت أن الحرب لا تُكسب بالشعارات، بل بالعمل الصامت والتخطيط الذكي.
كيف نجحنا في خداع العدو؟
تم تنفيذ خطة خداع استراتيجي محكمة جعلت العدو يعتقد أن مصر لن تحارب، وركزت إسرائيل قواتها في الجبهة السورية.
تم تسريب معلومات مغلوطة للعدو، مثل السماح للجنود بإجازات، وإجراء مناورات تدريبية حتى اللحظة الأخيرة.
تم منع أي تسريبات إعلامية عن الاستعدادات العسكرية، وكان التحضير يتم بسرية تامة.
يوم العبور نفسه، لم يكن العدو يتوقع الهجوم، ولم يستطع استيعاب المفاجأة إلا بعد فوات الأوان، لأننا كنا نعمل في صمت.
النتيجة كانت انتصارًا تاريخيًا أعاد لمصر والعرب كرامتهم، وأثبت أن الحروب تُكسب بالذكاء والتخطيط، وليس بالصراخ الإعلامي.
الدرس الذي يجب أن نتعلمه اليوم
إذا كان هناك درس أساسي من نكسة 1967، فهو أن الحرب لا تُكسب بالشعارات أو الدعاية الإعلامية، بل بالتخطيط، والعمل بصمت، والتحرك بحذر. نحن بحاجة إلى مراجعة سلوكياتنا الإعلامية، وتعزيز الوعي بأهمية السرية في الأمور العسكرية، لأن العدو لا يزال يراقب، ويستغل كل هفوة لصالحه.
الحرب القادمة - إن وقعت - لن تكون مثل 1967، ولكن إن كررنا نفس الأخطاء، فسنمنح العدو ميزة كبيرة نحن في غنى عنها. لذا، علينا أن نتعلم من الماضي، ونحافظ على أمننا القومي، وندرك أن قوة الجيوش لا تُقاس بعدد الفيديوهات المنشورة، بل بقدرتها على التحرك في صمت، تمامًا كما يفعل أعداؤنا.