recent
أخبار ساخنة

الشخصيات التاريخية بين القداسة و الواقع. د. عمرو ابوالحسن / شيفاتايمز

شيفاتايمز SHEFATAIMS
الصفحة الرئيسية














 الشخصيات التاريخية بين القداسة و الواقع.




كتب / د. عمرو ابوالحسن


عندما كنت طالبا في المرحلة الإعدادية حدثني أستاذي يوما عن (الحجاج بن يوسف الثقفي) أمير المسلمين و كيف كان يبطش بمعارضيه و يسفك دماءهم، لم يستوعب عقلي الصبياني في ذلك الوقت ما قاله، فسألته مصدوما ألم يكن مسلما و خليفة للمسلمين؟, كان سؤالي منطلقا من قناعة طفولية وقتها مفادها أن الشخصيات التاريخية المشهورة هم أقرب إلى أن يكونوا قديسين و رهبانا، و كلما اقتربت الشخصية من عصر الوحي زمنيا كانت أقرب إلى العصمة و أبعد عن الخطيئة. 

.

و عندما درسنا في الشعر العربي قصيدة أمتي للشاعر (عمر أبو ريشىة) و التي يقول في بعض أبياتها

رب وامعتصماه انطلقت ... ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها ... لم تلامس نخوة المعتصم

كان المعتصم حينها بالنسبة لي الصورة المثالية لما يجب أن يكون عليه الزعيم العربي المسلم الذي يثور لكرامة مواطنيه و أبناء شعبه، لكني عرفت بعد ذلك أن الأمر لم يكن مثاليا لهذه الدرجة، فالمعتصم هذا هو نفسه الذي اعتنق المذهب المعتزلي و تسبب في أذى كثير من العلماء و كان منها محنة الإمام أحمد بن حنبل لمجرد مخالفته في قوله بخلق القرآن.

.

وكذلك كان أمر (الجاحظ) عمرو بن بحر، الذي انتشرت مؤلفاته في حياته و بعد مماته، و درسنا له نصوصا مختلفة من مؤلفاته في مناهجنا البائسة (ككتابه البخلاء) فضلا عن تراجم متنوعة لحياته، إلا أنها جميعا أغفلت الحديث عن كونه أحد رؤوس المعتزلة في ذلك الوقت، و أن كثيرا من العلماء قد انتقدوه و كفروه، و من ذلك ما قاله عنه ابن حزم في الملل والنحل: كان أحد المجان الضلال غلب عليه الهزل.

.

و  ظللت كغيري أدرس الشخصيات التاريخية بتقديس كبير و تجريد لهم عن كل عيب و نقيصة، مفترضا أن من استحق أن يذكر في التاريخ بإنجازاته لابد و حتما أن يكون مثاليا، ومن ذلك ما درسناه في التاريخ عن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة و بانيها، و كيف أنه خاض معارك و حروبا عدة لتطويد أركان الدولة المصرية، لنكتشف بعد ذلك أن شعوب تلك المناطق التي خاض ضدها هذه الحروب كانوا يسمونه بالغازي و أنه إنما فعل ذلك رغبة منه في بناء مجد شخصي و قوة لسلطانه، و ما غدره بالمماليك في مذبحة القلعة و تفريطه في أجزاء كثيرة من تراث مصر و آثارها إلا خير دليل على ذلك.

.

و أما أمير الشعراء أحمد بك شوقي، الشاعر الفذ و أحد رواد مدرسة الإحياء التي بعثت الشعر العربي الكلاسيكي من رقدته، و أحيته  بعد فترات طويله من الانحطاط و الاضمحلال، فلم نعلم إلا متأخرا و بعد سنوات من الدراسة أنه كان ربيب بيت الخديوي، مداحا له و مهاجما لكل من يعارض سياسات القصر، معترفا بذلك و مصرحا به في شعره، فهو القائل:

أأخون اسماعيل في أبنائه .... ولقد ولدت بباب اسماعيلا

وموقفه من الثورة العرابية و عرابي معروف, فقد هجاه في غير موضع من شعره، و تهكم به، واستهزأ بمن تبعوه، وسخر من نسبه إلى الحسين بن علي، ولام عليه أنه لم يمت في الميدان كجده، حيث قال:

يا بن الحسينِ، حُسينٌ ماتَ من ظمأ.... وأنت محتـَفِلٌ بالنفس تـُرويها

أبوة المصطفى ما زال يلبسها ........... حرٌ قشيبُ ثياب العز ضافيها

حتى تنازعها في مصر صِبْيتُها .........  دَعوى، وحتى تَرَدَّتها غوانيها

وأصبحت لجبان القوم مَنـْقَبة ............. وزينةً لجهولِ القوم يُبديها

 وقال كذلك يهجوه:

صغار في الذهاب و في الإياب ..... أهذا كل شأنك يا عرابي

.

و من قبله كان عبدالرحمن بن محمد المعروف (بابن خلدون) مؤسس علم الاجتماع الحديث و صاحب المقدمة الشهيرة، حيث يروى أنه كان على غزارة علمه و سعة اطلاعه و ابتكاره كثير التودد للملوك، محبا للتقرب إلى السلاطين. و هذا الطبيب المسلم الشهير (ابن سينا) صاحب كتاب القانون في الطب والذي عرف في الغرب بأمير الأطباء،كان إسماعيلي المذهب، و قد كفره نتيجة أفكاره الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال.

.

ثم تدرس عن زعيم الأمة (سعد زغلول) و نضاله ضد الاحتلال الانجليزي فتتمنى أن تكون مثاليا مثله، فما إن تقرأ حرا حتى تكتشف ما اعترف به في مذكراته من إدمانه القيمار و شرب الخمر حيث يقول "كنتُ أتردد بعد عودتي من أوروبا على الكلوب، فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض، فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب، وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغًا طائلًا".


و كذلك ما ذكره طه حسين عن شيخه المرصفي حين كان يقول لمن يريد انتقاد النظام التعليمي في الأزهر في ذلك الوقت: (خلينا ناكل عيش), و ما رواه من سوء معاملة مشايخ الأزهر له حين كان يناقشهم أو يجادلهم في العلم، ثم جاء من بعد ذلك بعض تلاميذ طه حسين و على رأسهم الشيخ محمود شاكر لينسبوا إليه نفس التهم و الإدعاءات التي كان يلصقها بمشائخه فقالوا إنه كان متعاليا ساخرا من نقاده و معارضيه.

.

و كذلك الأمر مع دراشتنا للكثيرين من علماء الغرب،  فهذا مثلا إسحق نيوتن و الذي نعرفه جميعا بأنه من أعظم علماء الأرض فهو صاحب قوانين الحركة والجاذبية، يروى أنه كانت لديه منافسة محتدمة مع عالم آخر اسمه روبرت هوك وخاض الاثنان في نزاع خطير على قوانين نيوتن للجاذبية. و ادعى هوك أن نيوتن سرق أعماله في هذا المجال، و أخذ التنافس بين الرجلين يتطور و استمر حتى بعد وفاة هوك. و حين أصبح نيوتن رئيسا للجمعية الملكية استغل منصبه هذا لمصلحته الشخصية و قام بطمس أعمال هوك قدر الإمكان، وتقول إحدى القصص إن نيوتن قد دمر كل صور هوك.، و يروي المؤرخون كذلك أن (شامبليون) الباحث في المصريات و أول من فك طلاسم لغتها كان سليطا بذيء اللسان.

.

و الحقيقة أنك تدرك من هذا كله أشياء عدة،  أولها أنه لا كمال لبشر مهما أنجز أو قدم، و أن الشخصيات التاريخية ليست مثالية كما نتصورها، و أنه لابد من التخلص من تلك القداسة التي يكتب بها التاريخ أو يقرأ، ثانيا هناك فرق شاسع بين ما يراد لك أن تعرفه و بين ما يجب أن تعرفه، بين ما يدرس و ما يقرأ، و تبقى النقطة الفاصلة  هي أن تقرأ للجميع و تسمع للجميع ثم تكون فكرتك.










 د. عمرو أبوالحسن 

سبتمبر ٢٠١٨

google-playkhamsatmostaqltradent