ووداعا لكل الشهداء
حسين السمنودي
في زمن غابت فيه الرحمة وتعرّت فيه الإنسانية من كل معانيها، أصبحت مراكز المساعدات في غزة فخاخاً للموت، لا ملاذاً للنجاة. يركض الجائعون نحو كيس طحين أو قارورة ماء، بأعينٍ ذابلة وقلوبٍ يائسة، فإذا بالموت ينتظرهم هناك. كم من شهيدٍ سقط وهو يبحث عن لقمة تسدّ رمق أطفاله؟ كم من جسدٍ تناثر أشلاء تحت ركام الخبز الموعود؟
لم تعد الطائرات الحربية وحدها من تحصد الأرواح، بل باتت الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية –بكل ما تحمله من رمزية الحياة– تتحول إلى طُعمٍ قاتل، تقتنص به الأيادي الصهيونية والأمريكية أرواح الأبرياء بدمٍ بارد. إنهم يذبحون المدنيين، ويضحكون في عواصم القرار على مأساة تفيض ألماً في كل بيت بغزّة. كأنهم يقولون بوقاحة: "نمُدّ يد العون كي نقتلكم، لا لننقذكم".
لقد تحوّلت أماكن توزيع المساعدات –التي كان يُفترض أن تكون رموزاً للنجاة– إلى ساحات ذبح جماعي. لم تكن المساعدات مجرد صناديق طعام، بل كانت شركاً جهنمياً نُصب بدقة، ليقود مئات من الجوعى واليائسين نحو مصيرهم المحتوم. يُفتح الطريق للحظة، فيندفع الناس كالسيول، أطفالاً وشيوخاً ونساء، يركضون بثياب مهترئة وأمل مكسور، ثم تُغلق البوابة، وتبدأ المجزرة.
نعم، إنها فخاخ مُحكمة، تُدار بحقد وبدمٍ بارد.
ما إن تتجمّع الجموع عند نقاط توزيع المعونة، حتى تصوب دبابات الاحتلال رشاشاتها نحو الصدور العارية. يُطلّ الأوغاد من فتحات مدرعاتهم، ويتلذذون بمشهد الدماء وهي تنفجر فوق أكياس الطحين، كأنهم يشاهدون مشهداً ترفيهياً يُبث على شاشات دموية.
الرصاص لا يفرّق بين طفل يبحث عن قطعة بسكويت، وشابٍ كان يتوسل ماءً لأمّه، وعجوزٍ خرج رغم عجزه لأنه لم يتناول شيئاً منذ أيام.
الكل عندهم هدف، الكل مباح دمه، وكل من يقترب من "مساعداتهم المسمومة" يُجزى بالرصاص والدهس والإعدام العلني على مرأى ومسمع من العالم الذي لم يكتفِ بالصمت، بل أغمض عينيه تمامًا.
إنها ليست مجرد مراكز إغاثة… بل كمائن شيطانية متقنة، تُزرع على الطرقات لاصطياد أهل غزة، لا لإطعامهم، بل لإفنائهم. كأن الدبابة الصهيونية تجد في صفوف المنتظرين أهدافاً مريحة، جاهزة، ساكنة، لا تقاوم. يضغط الجندي المجرم على الزناد وهو يضحك، ويتساقط الجسد تلو الآخر، دون حتى أن يفهم الضحية لماذا قُتل.
يا للعار…
أيّ وحشية هذه التي تنصب المساعدة فخاً؟ وأيّ أيدٍ تلك التي تكتب على صناديق الموت عبارة "مساعدة إنسانية"؟
من ذا الذي يوزع الطعام باليد اليمنى ويضغط على الزناد باليسرى؟
ومن هذا العالم المتحضّر الذي يشاهد كل هذا ولا يثور؟!
إن اللعنة ستلاحق كل من ساهم في هذه المذابح، بالصمت أو المشاركة أو التبرير. ستلاحق اليد التي أطلقت النار، واليد التي موّلت، والعين التي شاهدت ولم تدمع. هذه ليست مجرد مراكز مساعدات، بل مذابح متنقلة تُديرها ضمائر ميتة.
والشهداء...
يا الله، كم زاد عددهم! لم يعد للقبور مكان، ولم يعد للأسماء متّسعٌ في سجلات الشهادة. غزة تنزف، وتئن، وتحتسب.
وختاما لذلك نقول ...سلامٌ على الشهداء الذين ارتقوا وهم يحملون في قلوبهم بصيص أمل، وعيونهم متعلقة برغيف خبز أو جرعة ماء. سلامٌ على الذين سقطوا في طوابير الانتظار، صامتين، صابرين، مؤمنين بأن الله لا يضيع أجر الصابرين.
سلامٌ على الجسد المجهول الذي لم يجده أحد، على الأم التي حنت على طفلها حين سقط ولم تنهض هي ولا هو، على العجوز الذي جلس على حجر وانتظر الطعام فجاءه الموت قبل أن تأتي المعونة.
سلامٌ على الأرواح التي حاصرتها الجدران والرصاص والجوع والخيانة، ثم رحلت تشكو إلى الله ظلم القتلة وتواطؤ العالم.
سلامٌ على من نام في قبرٍ لم يكن معدًّا له، سلامٌ على من لم نعرف اسمه، لكنه صار في عداد الشهداء عند رب كريم لا يضيع دمه.
سلامٌ على شهداء غزة، على كل من خطّ بدمه وصيته الأخيرة: “نموت كي يعيش الجائعون… ونُذبح ليبقى لأطفالنا وطن ولو في الحلم.”
يا غزة، دمعكِ في عيوننا، وجراحك في قلوبنا، وشهداؤك أمانة في أعناقنا... وإن كانت الأرض تضيق بجثامينهم، فإن السماء تحتضنهم شهداء عند مليك مقتدر، لا يغيب عن عينه شيء، ولا تمر دمعة دون حساب.
اللهم تقبّلهم في عليين، وارفع ذكرهم في الشهداء، وانتقم من قاتليهم، وارحم شعبًا لا يجد غيرك ملجأً ولا ناصراً.